آخر تحديث :الأحد-28 ديسمبر 2025-02:47م

مأزق الجيوش الكبرى أمام حرب العصابات

الأحد - 28 ديسمبر 2025 - الساعة 11:18 ص
العقيد عادل الهرش

بقلم: العقيد عادل الهرش
- ارشيف الكاتب


لم تعد القوة العسكرية الكاسحة ضمانًا للنصر. فالتجارب الحديثة والقديمة تؤكد أن الجيوش النظامية، مهما بلغت ترساناتها من الطائرات والدبابات والصواريخ، قد تُلحق دمارًا واسعًا وتقتل آلاف الأبرياء، لكنها كثيرًا ما تُهزم أمام خصم صغير، متحرك، يختبئ بين تضاريس الأرض وداخل نسيج المجتمع. المفارقة أن القوة الغاشمة لا تُنهي الصراع، بل تُغذّيه. فحين تُستهدف المدن والقرى، يتحول المجتمع كله إلى ساحة مواجهة، ويصبح كل بيت خندقًا، وكل شارع ساحة حرب، وعندها تفقد الجيوش النظامية أهم عناصر تفوقها: وضوح الجبهات، وسرعة الحسم، والقدرة على تمييز العدو من المدني.


الدول الكبرى تدخل الحروب وهي تراهن على الحسم الخاطف، مستندة إلى تفوقها الجوي والناري، لكن الجماعات التي تعتمد حرب العصابات لا تسعى إلى السيطرة المباشرة، بل إلى إنهاك الخصم تدريجيًا، واستنزاف موارده، وكسر إرادته السياسية والمعنوية. هي جماعات بلا قواعد ثابتة ولا خطوط إمداد تقليدية، تتحرك بخفة داخل بيئات اجتماعية حاضنة، ما يجعل استهدافها مهمة شبه مستحيلة.


هذا المشهد ليس جديدًا في التاريخ. ففيتنام كانت المثال الأبرز على سقوط القوة العظمى أمام حرب العصابات، حيث امتلكت الولايات المتحدة التفوق العسكري الكاسح لكنها فشلت في كسر إرادة خصم اندمج في مجتمعه واعتمد الصبر والاستنزاف حتى انهارت الإرادة السياسية الأمريكية. وفي أفغانستان واجه الاتحاد السوفيتي المصير ذاته، إذ تحولت الجبال والقرى إلى مقابر للدبابات، وأُنهك الجيش حتى انسحب مهزومًا. وبعد عقود، وجدت الولايات المتحدة نفسها في المستنقع ذاته، حيث انتهت حربها الطويلة بالانسحاب، تاركة خلفها مثالًا جديدًا على فشل القوة الغاشمة أمام حرب العصابات. واليوم يتجلى النموذج في أوكرانيا، حيث لم يتحقق الحسم السريع الذي راهنت عليه روسيا، بل تحولت الحرب إلى صراع استنزاف طويل، أثبت فيه الطرف الأضعف نسبيًا قدرته على التكيّف واستثمار الدعم الشعبي والدولي لإرباك الخصم.


لقد أسهم تطور وسائل القتال الحديثة في تعميق هذا التحول. فالحروب لم تعد بحاجة إلى جيوش جرارة أو معارك تقليدية واسعة. الطائرات المسيّرة، والألغام، والعبوات الناسفة، ومدافع الهاون. والقناصات .والصواريخ الموجهة غيّرت قواعد الاشتباك وقلّصت الفجوة بين القوي والضعيف، ومكّنت جماعات صغيرة من إلحاق خسائر مؤثرة بآليات ثقيلة وجيوش نظامية متفوقة، وأفقدت التفوق المدرع كثيرًا من فاعليته.


الخلاصة أن المشكلة الأساسية التي تواجهها الدول الكبرى ليست في نقص السلاح، بل في سوء تقدير طبيعة الصراع. فحروب اليوم هي حروب إرادة ونَفَس طويل، لا تُحسم بالقوة النارية وحدها. وحين يقاتل الخصم بدافع البقاء، يصبح ميزان القوة التقليدي بلا معنى، ويتحول التفوق العسكري إلى عبء ثقيل. وهكذا، قد تنجح الجيوش الكبرى في القتل والتدمير، لكنها تفشل مرارًا في تحقيق النصر الحاسم. فحروب العصابات أثبتت أنها قادرة على تحويل أعظم الجيوش إلى أطراف عالقة في مستنقع استنزاف طويل، حيث لا نصر سريع، ولا نهاية واضحة، بل خسائر متراكمة وأوهام قوة تتآكل بمرور الوقت…


---