آخر تحديث :الخميس-25 ديسمبر 2025-09:25م

حضرموت ليست "جنوبًا" يُدار .. بل كيانٌ يُحتَرَم

الثلاثاء - 23 ديسمبر 2025 - الساعة 12:27 م
د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود

بقلم: د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود
- ارشيف الكاتب



في أحد أيام نوفمبر 1967، بينما كان البريطانيون يغادرون عدن بحقائبهم ووثائقهم، لم يخطر ببال أهالي سيئون أو المكلا أو دوعن أن "الاستقلال" الذي يُحتفل به في عدن سيكون بوابةً للاحتلال من الداخل. فباسم "الثورة" و"محاربة الكهنوت"، دخلت مجموعات مسلحة — لا تمثّلهم، ولا تشبه مجتمعاتهم — إلى قرى حضرموت ووديانها، وبدأت حملة منظمة لمحو كل ما يرمز إلى استقلاليتها التاريخية: سلاطينها، مشايخها، علماؤها، مدارسها، بل حتى ذاكرتها. لم يكن الهدف تحرير الجنوب، بل توحيد الجنوب تحت سلطة واحدة — سلطة لا ترى في حضرموت شريكًا، بل عقبة.


ومنذ ذلك اليوم، أصبح أبناء حضرموت يعيشون تحت وطأة منطقين متتاليين: أولهما قمع الحزب الاشتراكي الذي جعل من "الرجعية" تهمة جاهزة لكل من يرفض الماركسية أو يدافع عن قيمه، وثانيهما خطاب التجريم الجديد الذي يُطلقه اليوم من يدّعون تمثيل "الجنوب"، لكنهم لا يرون في حضرموت سوى كيان يجب ترويضه أو تصنيفه. وما بين هذين المنطقين، تُسجَن حضرموت في سرداب لا تُسمح لها بالخروج منه إلا إذا تخلّت عن جوهرها.


لم تكن حضرموت يومًا جزءًا من الدولة التي أنشأها البريطانيون في عدن، ولا من "اتحاد الجنوب العربي" الذي شكّل في الستينيات. بل كانت محمية شرقية مستقلة، تضم كيانات محلية ذات سيادة فعلية: سلطنة القعيطي في المكلا، التي لم تكن كما يُروّج بعضهم "سلالة يافعية"، بل سلالة ذات جذور في جنوب شبه القارة الهندية، هاجرت إلى سواحل حضرموت في القرن التاسع عشر، وارتبطت بعلاقات تجارية وسياسية مع بريطانيا، التي وجدت فيهم حلفاءً موثوقين لحماية مصالحها دون تكلفة عسكرية مباشرة. والبريطانيون لم يعيّنوا القعيطي حاكمًا على حضرموت كلها، بل على المكلا وضواحيها الساحلية فقط. ونفوذهم لم يمتد قط إلى وادي حضرموت — لا إلى سيئون، ولا إلى دوعن، ولا إلى شبام. وادعاء أن "القعيطي يافعي" هو أكذوبة تروّجها بعض النخب الجنوبية اليوم لخلط الأوراق وربط حضرموت بسياقات لا تنتمي إليها، في محاولة لتصنيفها ضمن "الجنوب" بالقوة، بينما هي تاريخيًّا وثقافيًّا أبعد ما تكون عن يافع. فاليافع قبيلة جبلية في لحج، لها تركيبتها الاجتماعية الخاصة، بينما حضرموت — ساحلًا وواديًا — مجتمع قبلي-حضري-بحري، له لغته، تجارته، وقيادته الخاصة، التي نشأت من رحم الأرض، لا من تعيينات استعمارية.


وفي الداخل، حكم السلطنة الكثيرية وادي حضرموت من عاصمتها سيئون، بقيادة آل كثير، الذين يعود نسبهم إلى قبائل حضرموت الأصيلة، وحافظوا على استقرار المنطقة لقرون دون تدخل خارجي. أما في وادي دوعن، ذلك الوادي المُنعزل جغرافيًّا والمترابط اجتماعيًّا، فقد كانت مشيخة آل العمودي تشكل العمود الفقري للحياة الاجتماعية والدينية. لم يبنِ آل العمودي قصورًا عالية، لكنهم بنوا مدارس، وجسّدوا قيم العدل، ولم يحكموا بالعصا، بل بالمكانة. وهؤلاء — السلاطين والمشايخ والعلماء — هم من سُجِنوا، نُفوا، أو سُحِلوا في شوارع المكلا وسيئون بعد 1967، ليس لأنهم ارتكبوا جرائم، بل لأنهم مثلوا بديلًا عن المركزية.


لقد مارس الحزب الاشتراكي اليمني — حين تولّى الحكم في الجنوب — أبشع أشكال القمع الطبقي والثقافي ضد أبناء حضرموت. فلم يكتفِ بإسقاط الكيانات المحلية، بل صنّف المجتمع الحضرمي إلى "فئات":

- الأمراء والسلاطين: "أعداء الشعب".

- العلماء والمشايخ: "كهنوت رجعي".

- القبائل: "بقايا إقطاعية".


وفي المقابل، رُفع شأن "الطبقة العاملة" و"الكوادر الثورية" — التي غالبًا ما كانت من خارج حضرموت — ووُضعوا في المناصب القيادية في الجيش، الأمن، والإدارة. وبدأت حملات "التثقيف السياسي" التي تهدف إلى غسل الأدمغة، وتشويه رموز المجتمع الحضرمي، وتحويل احترام الشيخ أو العالم إلى "تديّن رجعي". بل إن بعض المُكلَّفين بتنفيذ هذه السياسات كانوا من أبناء الطبقات الدنيا في المجتمع الحضرمي، الذين وُظّفت طموحاتهم الشخصية في مشروع القمع، فاستُخدموا لقمع شيوخهم وقادتهم، تحت شعار "التحرر من الاستغلال"، بينما كانوا في الحقيقة أدوات في يد سلطة لا تعرف حضرموت ولا تحترمها.


واليوم، يُعاد إنتاج ذات المنطق، لكن بلغة العصر: فالمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يدّعي تمثيل "الجنوب"، لا يرى في حضرموت إلا "منطقة يجب توحيد خطابها". ومن يعترض على هيمنة قيادات من عدن أو لحج على القرار في سيئون أو دوعن، يُوصَف فورًا بـ"الإخوان"، أو "التابع لصنعاء"، أو "المندّس". وتنسج روايات تقول إن "القعيطي كان يافعيًّا"، أو أن "حضرموت كانت دائمًا جزءًا من الجنوب"، في محاولة لتزوير الجغرافيا والتاريخ معاً. لكن الحقيقة التي لا تُدارَأ هي أن حضرموت وقفت على مسافة من صراعات الشمال والجنوب، لأنها لم تكن يومًا طرفًا في تلك الثنائية. حضرموت كانت — وما زالت — كيانًا مستقلاً في وعي أبنائها، وتاريخها، وعلاقاتها مع العالم.


واليوم، حين يُقال لأهالي دوعن: "لماذا لا تؤيدون الانفصال؟"، أو يُسأل شيخ في سيئون: "هل أنت جنوبي؟"، فإن السؤال نفسه يحمل إهانة: كأنه يفترض أن الهوية تُمنح من عدن، لا تُبنى من الأرض. لكن حضرموت لا تحتاج إلى شهادة انتماء من أحد. فهي التي أنجبت تجار المحيط الهندي، وعلماء الأزهر، وسلاطين حكموا بالعدل دون جيوش، وقبائل حافظت على الأرض دون وصاية. وهي التي لم تُحتل بالبنادق فحسب، بل بالسرديات — سرديات تحاول أن تجعلها جزءًا من قصة لا تخصها.


ولعلّ أخطر ما يواجه حضرموت اليوم ليس التدخل العسكري، بل التزييف التاريخي. فحين يُقال إن "القعيطي يافعي"، فإن الهدف ليس تصحيح النسب، بل إدخال حضرموت قسرًا في سردية جنوبية لا تمثّلها. وحين يُتجاهل دور السلطنة الكثيرية أو مشيخة آل العمودي، فإن الغاية هي طمس البديل التاريخي الذي يثبت أن حضرموت كانت قادرة على حكم نفسها دون وصاية من عدن أو صنعاء.


حضرموت ليست "مشكلة جنوبية" يجب حلّها.

حضرموت هي حلّ — لليمن كله — إذا أُتيح لها أن تكون كما هي: لا شمالية، ولا جنوبية بمعناها الضيق، بل حضرمية، بكل ما تحمله الكلمة من عمق، استقلال، وكرامة.


وطالما أن هناك من يُسجَن لمجرد أنه قال: "نحن من حضرموت"، فإن الثورة لم تكتمل بعد.

وطالما أن التاريخ يُختزل ليرضي سرديات حزبية، فإن الذاكرة ستبقى المقاومة الوحيدة.


✍🏻 د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود