آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-10:04م

لحظات تنزف فيها العين دموعًا من دم..!!

السبت - 06 ديسمبر 2025 - الساعة 07:09 م
محمد العنبري

بقلم: محمد العنبري
- ارشيف الكاتب



في زوايا الحياة القاتمة وفي المساحات التي لا يزورها الضوء إلا نادرا تنبض لحظات لا تشبه غيرها لحظات تئن فيها الروح وتتجمد فيها الكلمات وتغدو فيها الدموع عاجزة عن التعبير فتتحول إلى دمٍ ينزف من عمق الألم لا من طرف العين تلك اللحظات التي تهز الإنسان في داخله وتعيد تشكيل تصوره عن الرحمة والإنسانية والضعف والقوة والعدل والخذلان.


تنزف فيها العين دموعًا من دم حين ترى الأطفال يجوبون الشوارع كأرواح صغيرة تائهة يبحثون عن كسرة خبز أو بقايا طعام ألقتها يد ما على قارعة الطريق تنظر إليهم فيخزك السؤال أي ذنب جعل طفولتهم تتيه هكذا؟ ترى كفوفهم الصغيرة تمتدّ بخجل يلوّثه الفقر ويتذللون لسؤال الناس فتجد من بينهم قلوبا حجرية قاسية ميتة لا يلينها منظر جوع ولا يوقظها أنين حرمان في تلك اللحظة تشعر أن العالم كله قد خان طفولتهم وأن الدموع وحدها لا تكفي فتنزف العين دما بدل الدمع.


وتنزف فيها العين دموعا من دم حين يدخل المرء بيت الله لا طلبا لرضاه بل ليُرى ليثبت حضورا اجتماعيا لا خشوعا ولا قربا من خالقه حين يتحول المسجد من مكان تطهير للروح إلى خشبة عرض يتسابق الناس عليها لإرضاء العيون لا رب العيون تشعر أن الإيمان نفسه قد جُرح وأن الصدق أصبح نادرا وأن العبادة فقدت نقاءها في تلك اللحظة يثقل القلب وتنزف الروح قبل العين.


وتنزف فيها العين دموعا من دم حين تنتشر الخيانة في طرقات الحياة كأنها عادة يومية فلا يأمن المرء أن يدير ظهره ولا يطمئن لقلب قد ائتمنه يوما تخشى أن يطعن أقرب الناس إليك طهرك وأن تتلاشى الثقة كما تتلاشى الأنفاس في صدر مريض يصبح الغدر أقرب من الوفاء والكذب أسرع من الصدق وتختفي الأمانة بين ضجيج المصالح حينها تعلم أن الطعنة من القريب أعمق وأن ندوب الخيانة لا تشفى وأن العين لا تبكي دموعا عادية أمام هذا الألم.


وتنزف فيها العين دموعا من دم حين تبحث عن الصديق الذي يكون رفيقا للطريق فلا تجد إلا رفاق سوء وعداوات متنكرة في ثياب الصحبة حين تكتشف أن الصداقة التي كانت سندا أصبحت ندبة وأن الرفيق الذي كان يظن بأنه حصن صار ثغرة تدرك أن العالم قد تغيّر وأن الوفاء أصبح نادرا حتى كاد ينقرض وأنك تمشي وحدك في طريق كان يفترض أن يكون مزدحما بالقلوب الصادقة.


وتنزف فيها العين دموعا من دم حين يتخلى أقرب الناس عنك بينما يقترب منك من لم تتوقعه يوما تتساءل كيف يبتعد من شاركك تفاصيلك؟ وكيف يقترب من كان بعيدا عن حياتك؟ كم من الرحمة ستفتقد؟ وكم من القسوة ستنالك؟ يمر بك ذلك الشعور الثقيل بأن كل شيء ينقلب وأنك تتعلم وحدك كيف تقف من جديد بعد أن سقطت بسبب يد كنت تثق بها.


وتنزف فيها العين دموعا من دم حين يموت الأبوان وتترك الأرواح الصغيرة في عالم قاس لا يعرف معنى الحنان إلا لماما ترى الطفل بابتسامة يحاول بها أن يواجه البؤس يوزع ضحكته على الدنيا وكأنه لا يدرك أنه فقد أعظم حصن وأقوى سند وأحن يدين يضحك لأنه لا يعرف حجم الفقد بعد وأنت تبكي لأنك تعرف جيدا أنه سيكبر ليكتشف وحده كم من الحنان افتقد وكم من الأمن فقد وكم من الألم سيعيشه.


إنها لحظات لا تنسى لحظات تجرح الروح وتؤلم القلب لحظات ندرك فيها أن العالم ليس رحيما دائما وأن الإنسان مهما بدا قويا فهو هش أمام الفقد وأمام الخذلان وأمام الظلم وأمام قسوة الحياة غير أن هذه اللحظات بكل ما تحمله من وجع تذكرنا بأن الإنسانية ما تزال ممكنة وأن العطاء قادر على تضميد الجراح وأن الرحمة هي الضوء الوحيد الذي يمكنه أن يبدد الظلمة ففي عمق الألم يولد الوعي وفي عمق الدموع يولد الأمل وفي لحظات نزف الدم من العين يولد إنسان أقوى أصدق وأكثر رحمة.


هذه اللحظات ليست نهاية الطريق لكنها اختبار لمدى قدرتنا على البقاء إنسانيين في عالم يجرب قسوتنا كل يوم.

محمد العنبري