آخر تحديث :الجمعة-28 نوفمبر 2025-04:20م

نوفمبر ميلاد الاستقلال وإسقاط مشروع الجنوب العربي

الخميس - 27 نوفمبر 2025 - الساعة 09:14 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب


في الذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال الوطني ، نؤكد أن الثلاثين من نوفمبر لم يكن يوماً عابراً في ذاكرة الجنوب اليمني، ولا حدثاً سياسياً عابراً مثل سائر الأحداث التي تمر ثم تُنسى. كان ذلك اليوم لحظة انعتاق حقيقية، تتوّج ما يقرب من أربعة أعوام من الكفاح المسلح الذي بدأ في جبال وقرى ومدن الجنوب اليمني ، في ١٤ أكتوبر ١٩٦٧م، وما يقرب من قرنٍ ونصف من مواجهة تجربة استعمارية حاولت أن تغيّر هوية الأرض اليمنية وتقطع صلتها بجذورها التاريخية.

لقد أدرك ابناء الجنوب اليمني مبكراً أنّ الوجود البريطاني لم يكن حماية ولا تنظيماً، بل مشروعاً استعمارياً متكاملاً يراد له أن ينسج كياناً سياسياً بديلاً عن اليمن، عبر ما سمّي بـ اتحاد الجنوب العربي: اتحاد للسلطنات والمشيخات تُجمع تحت مظلة بريطانية واحدة، تُصنع فيه دولة بمقاس الخارج لا بمقاس الإنسان اليمني، دولة تهيّأ لتكون بديلاً عن الهوية الوطنية بعد رحيل المستعمر، وكأن الجنوب أرض بلا تاريخ ولا امتداد.

لكن هذا المشروع سقط يوم قررت الحركة الوطنية أن تعيد كتابة المصير بدمها.

جاءت ثورة ١٤ أكتوبر امتداداً عضوياً لثورة ٢٦ سبتمبر في شمال الوطن.

فالثورتان محمدرغم اختلاف الميدان، حملتا هاجساً واحداً: هدم مشروع الاستبداد والاستعمار، وبناء دولة يمنية حديثة تستند إلى إرادة شعبية لا إلى وصاية خارجية أو داخلية.

في الشمال، فتح سبتمبر الطريق لإنهاء الحكم الإمامي المتخلف، وفي الجنوب، فتحت أكتوبر الباب لطرد الاستعمار البريطاني. وفي كلا الجبهتين، كان العنصر الحاسم واحداً: وعي يمني جديد أدرك أن التغيير لا يُستورد، وأن التحرر لا يُمنح بل يُنتزع.

لم تكن الجغرافيا حاجزاً بين الثورتين؛ كان المقاتل الجنوبي يرفد الثورة في الشمال، والمثقف الشمالي يكتب ويدعم ثوار الجنوب. لقد تشابكت الدماء، واختلطت الهتافات، وتوحدت المعركة من صنعاء إلى عدن ومن المهرة إلى الحديدة، وهذا ما جعل حركة التحرر اليمنية نموذجاً نادراً لوحدة الإرادة رغم اختلاف الظروف.

منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، بدأت الحركة الوطنية في الجنوب تنضج: نقابات، خلايا سرية، فصائل سياسية، منابر ثقافية، مجموعات مقاومة في المدن، واندفاعة شعبية رافضة للوجود البريطاني. كان الوعي يتشكل في صمت، لكن الثورة كانت تطهى على نار هادئة.

وجاءت أكتوبر لتجمع هذه الجهود في مشروع واحد، يلتقي فيه:

الكفاح المسلح في الجبال والمدن، و العمل السياسي في عدن، والنشاط النقابي، والنضال المجتمعي الذي احتضن الثوار ووفّر لهم البيئة الحاضنة.

بهذه الروح، تحولت الثورة من فكرة في قلوب الثوار إلى حركة وطنية شاملة تمتد في كل جنوب اليمن.

عندما أعلنت بريطانيا خروجها في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م، كانت تدرك أن مشروعها البديل الذي حاولت تكريسه – اتحاد الجنوب العربي – قد انتهى قبل أن يبدأ، فقد أسقطته الثورة قبل أن يسقط على الورق.

لم تعد السلطنات والمشيخات قادرة على الاستمرار ككيانات سياسية مستقلة أو تابعة، ولم يعد المجتمع اليمني الجنوبي قابلاً لفكرة “جنوب بلا هوية يمنية”. لقد صنع الثوار واقعاً يفرض على العالم احترامه: دولة يمنية جنوبية مستقلة على أرضها(جمهورية اليمن الشعبية) بقيادة أبنائها، لا بوصاية خارجية ولا بواجهات استعمارية جديدة.

إن خصوصية هذا اليوم في ذكراه ال٥٨ لا تأتي فقط من أنه يوم استقلال، بل لأنه يوم إزالة مشروع كان يراد له أن يطمس هوية جنوب اليمن ويحوّله إلى كيان مُصطنع، منفصل عن محيطه الوطني والتاريخي.

وإذا نظرنا إلى واقع اليمن اليوم، ندرك أن ما حملته ثورات سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر من قيم التحرر والتحوّل السياسي ما يزال هو المفتاح الوحيد لعبور اللحظة الراهنة.

فالمشروع الحوثي الذي يهيمن على صنعاء اليوم ليس امتداداً طبيعياً لتاريخ اليمن ولا لتضحيات أبنائه، بل يمثل ارتداداً إلى ما قبل سبتمبر، وعودة إلى أنماط الحكم السلالي الذي ثار اليمنيون عليه قبل ستة عقود.

إن هزيمة هذا المشروع الدخيل لن تتحقق بالحلول الشكلية أو التفاهمات المؤقتة، بل بإحياء الروح التي صنعت التحرر في المقام الأول:

روح الإرادة الشعبية، وروح التمسك بمشروع الدولة، وروح رفض كل أشكال الوصاية والهيمنة.

وكما أسقطت ثورات التحرر مشروع “الجنوب العربي” المصنوع خارج الهوية اليمنية، فإن الشعب نفسه قادر على إسقاط المشروع الحوثي الذي يحاول إعادة تشكيل اليمن وفق رؤية لا تشبهه ولا تنتمي له. فالهوية اليمنية – شمالاً وجنوباً – أكبر من أي مشروع منغلق، وأعمق من أن تُختطف بالسلاح.

إن استلهام أهداف سبتمبر وأكتوبر ليس ترفاً وطنياً، بل ضرورة وجودية. فاليمن لا يمكن أن يستعيد عافيته إلا بالعودة إلى العقد الوطني الذي أسسته تلك الثورات:

دولة مواطنة لا سلالة، و مؤسسات لا ميليشيا، ووعي جمعي لا مشاريع أمر واقع.

وهكذا، يبقى ٣٠ نوفمبر محطة تؤكد أن الشعوب التي أسقطت الاستعمار قادرة على إسقاط الانقلاب، وأن روح التحرر التي قادت الآباء في الستينيات قادرة اليوم على إعادة اليمن إلى مشروعه الوطني الجامع.


✍️ عبدالعزيز الحمزة

الخميس ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٥م


🌹طات جمعتكم ايها ااحبة🌹