كان يمكن حماية حضرموت من أن تتحول إلى مادة للتفاوض السياسي بين قوى خارجية لو أن ثلاثة عناصر أساسية توافرت في اللحظة التاريخية الحرجة، وهي: نخبة سياسية حضرمية مستقلة تمتلك القدرة على التفاوض، مشروع سياسي حضرمي واضح المعالم ومقبول اجتماعياً، وبيئة إقليمية ودولية تسمح بظهور هذا الصوت الحضرمي وتمنحه الشرعية والدعم. غير أنّ هذه الشروط كانت غائبة تماماً، بفعل عوامل تاريخية وسياسية تراكمت منذ سقوط حضرموت عام 1967، فحُرمت حضرموت من أدوات الفعل السياسي، ومن القدرة على صياغة خياراتها، ومن المشاركة في إعادة تشكيل مستقبلها في لحظة مفصلية مثل لحظة الوحدة.
ومع ذلك، فإن غياب هذه الشروط في الماضي لا يعني استحالة تحققها في الحاضر. بل إن الظروف الراهنة، مع تسارع الأحداث، وتآكل بنية الدولة اليمنية، وعودة النقاشات الدولية حول مستقبل اليمن وحضرموت، تضع حضرموت أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر. فالمجتمع الحضرمي اليوم يمتلك رصيداً من الوعي التاريخي والسياسي بضرورة استعادة حضرموت، لم يكن موجوداً في العقود السابقة، ويمتلك كذلك شبكات اجتماعية واقتصادية وثقافية قادرة على بناء موقف حضرمي مستقل، ويساند هذا الوعي المتنامي المشروع السياسي المنظم الذي يستطيع خوض عملية التفاوض في المحافل الإقليمية والدولية ويحظى بتأييد من دول الخليج العربي وبالذات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي كانت حريصة على إيجاد حل للملف اليمني وايمانهم المطلق بحق شعب حضرموت في تقرير مصيره، وهي بذلك وبكل تأكيد سوف تمتنع عن شرعنة ضم ولحاق جنوب اليمن لحضرموت قسريا سابقا، وذلك من خلال أي اتفاق قادم يخص جنوب اليمن.
إنّ العمل المطلوب جماهيريا الآن ليس عملاً عاطفياً أو ردّة فعل، بل الالتحاق بالمشروع الحضرمي الذي تم تأسيسه ليعيد لحضرموت دورها الطبيعي ككيان سياسي وتاريخي مستقل، مشروع استند إلى قراءة علمية لحق حضرموت في تقرير مصيرها، وإلى توظيف القانون الدولي الذي يمنح الأقاليم التي تعرضت للضمّ القسري الحق في استعادة وضعها الأصلي. الذي اصبح يملك نخبة حضرمية قادرة على التحدث بلغة السياسة الدولية، متمكنة من تاريخ حضرموت القانوني، وتدرك متطلبات التفاوض، وتعرف كيف تطرح القضية الحضرمية باعتبارها قضية “شعب له هوية” وليس قضية “منطقة إدارية” داخل دولة منهارة.
وفي هذا السياق، يصبح إعداد المجتمع الحضرمي، سياسياً وقانونياً واجتماعياً، أمراً ملحاً، فالحضارم اليوم أمام مفترق طرق، إما أن يدخلوا في أي مفاوضات قادمة حول مستقبل اليمن وحضرموت، بوصفهم تابعين، كما حدث في 1967 و1990، أو أن يدخلوا كأصحاب حق، ككيان يمتلك رؤية واضحة لمستقبله، ويمتلك القدرة على اتخاذ موقف سياسي مستقل. ومثل هذا الخيار لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم بناء إطار حضرمي جامع يمثّل إرادة حضرموت، لا إرادة القوى القادمة من خارجها.
ولكي يكون المجتمع الحضرمي قادراً على الدخول في المرحلة القادمة بثقة وفاعلية، فإنه بحاجة إلى الوقوف مع البنية السياسية التي تشكّلت خلال السنوات الماضية عبر مسار طويل ومعقّد، تمثّل في مؤتمر حضرموت الجامع وحلف حضرموت. فهذه الكيانات لم تولد من فراغ، بل جاءت نتيجة تراكم جهود تنظيمية واجتماعية وسياسية امتدت لسنوات، شاركت فيها مختلف الشرائح الحضرمية، من زعامات قبلية وشخصيات اجتماعية ونخب فكرية وسياسية ورجال أعمال وشباب، حتى أصبحت اليوم إطاراً يمتلك الحد الأدنى من الشرعية الاجتماعية، وهو ما لم يتوفر لأي كيان آخر على أرض حضرموت
لقد مرّت عملية تأسيس مؤتمر حضرموت الجامع وحلف حضرموت بمراحل دقيقة كان لكل منها تحدياتها، بدءاً من الاتفاق على الإطار الهوياتي الجامع، مروراً بضبط التوازنات الداخلية بين مكونات المجتمع الحضرمي، وصولاً إلى صياغة وثائق مرجعية تعكس مصالح حضرموت الحقيقية، لا مصالح القوى المفروضة عليها من الخارج. ومن خلال هذا البناء التدريجي، وتوسيع دائرة المشاركة، وتشبيك العلاقات بين المكونات التقليدية والحديثة، باتت حضرموت تمتلك اليوم إطاراً سياسياً يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق لأي مشروع تفاوضي أو سياسي يتعلق بمستقبلها.
وفي ظل تسارع الأحداث في اليمن، وتزايد الحديث الإقليمي والدولي عن ترتيبات ما بعد الحرب، فإن التفاوض حول شكل الدولة اليمنية أو كياناتها المستقبلية قد يصبح أمراً وشيكاً، وهو تفاوض لا ينتظر أحداً. ومن يدخل الطاولة دون مشروع مكتمل سيجد نفسه تابعاً لمشاريع الآخرين. ومن هنا تظهر أهمية أن يلتحق المجتمع الحضرمي، بكل فئاته وقواه، بهذه البنية السياسية التي باتت تمثل الإطار الوحيد القادر على التعبير عن إرادة حضرموت، لأن التشرذم أو الوقوف خارج هذا الإطار يعني تكرار أخطاء الماضي، حيث كانت حضرموت تُعرَّف وتُقدَّم من قبل غيرها، وتُتخذ القرارات بشأنها في غيابها.
إن مؤتمر حضرموت الجامع وحلف قبائل حضرموت لا يمثلان فقط منصة سياسية، بل يمثلان مظلة لحماية الحق الحضرمي في تقرير مصيره، والدفاع عن وجوده التاريخي، واستعادة دولته إذا توصلت الإرادة الجمعية الحضرمية إلى ذلك، أو على الأقل فرض مكانة تفاوضية تحفظ مصالح حضرموت وتمنع تكرار عمليات الضمّ والإلحاق التي تعرضت لها في مراحل سابقة. ولأن القوى الإقليمية والدولية تتعامل في المنعطفات التاريخية مع الكيانات الأكثر تنظيماً وقدرة على التعبير عن نفسها، فإن حضور حضرموت منظّمة ومتوحدة تحت هذه المظلة يمنحها وزناً سياسياً لا يمكن تجاهله.
وما دامت ملامح التفاوض المقبل بدأت تتشكل فعلاً، وما دامت القوى اليمنية والإقليمية تستعد كلٌّ بمشروعها، فإن حضرموت أمام لحظة حاسمة يجب فيها أن تكون حاضرة بمشروعها الخاص وهي الاوفر حظا من جنوب اليمن الذي اصبح بحكم المنتهي ورهان قياداته المعاقة فكريا على حضرموت ليبقى له قليلا من الوزن. فالحق لا يكفي أن يكون موجوداً نظرياً، بل يجب أن يتحول إلى قوة سياسية منظمة، قادرة على مخاطبة العالم، وعلى فرض حضورها في أي حوار يتعلق بالمستقبل. ومن هنا فإن الالتحام بهذه البنية الحضرمية الجامعة يصبح ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة تاريخية، لضمان ألا تكون حضرموت مرة أخرى مجرد ملحق أو ورقة مساومة في ترتيبات يصوغها الآخرون.
إن حضرموت التي غُيّبت عن القرار في الماضي ليست مضطرة للغياب اليوم. فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا حين تعيد الشعوب أخطاءها. وإذا استطاع الحضرميون تحويل وعيهم الحالي إلى مشروعهم السياسي الواضح، وتوحيد صفوفهم حول حقهم التاريخي، فإنهم سيكونون طرفاً فاعلاً في رسم مستقبلهم، ولن يُعاد تقديمهم مرة أخرى “كصفقة” تُحسم في غرف مغلقة. بل سيظهرون ككيان صاحب حق، يعيد بناء دولته الحضرمية التي امتدت في التاريخ، ويستعيد مكانته الطبيعية في خارطة الإقليم، وفق قواعد القانون الدولي وحق تقرير المصير.
المحامي/ صالح عبدالله باحتيلي