مقالًا تحليليًا حول العلم الذي سُخِّرت به قوى مختلفة في الكون، يجمع بين القراءة الدينية والتأمل التاريخي والفلسفي:
النبي سليمان… والعلم الذي سُخِّرت به قوى الكون
لا يكاد يرد ذكر نبي في النصوص الدينية ارتبط بعلوم غيبية وطاقات كونية كتلك التي ارتبطت بالنبي سليمان عليه السلام. فمنذ اللحظة التي ربط فيها القرآن بين ملكه العظيم ومعارفه غير المألوفة للبشر، ظلّ سؤال جوهري يُطرح: أيُّ نوعٍ من العلم امتلكه سليمان حتى سُخِّرت له الرياح والجن والطير؟
هذا المقال يحاول تقديم قراءة فكرية للموضوع، من دون خوض في الأساطير، ومن دون تجريد النصّ الديني من رمزيته وروحه.
أولاً: العلم أساس التكريم والتمكين
يقول تعالى:
> ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ…﴾
وهي آية تضع الفهم في قلب تجربة سليمان؛ فليست المعجزات وحدها هي التي صنعت ملكه، بل العلم القادر على كشف طبائع الأشياء ونواميس الكون.
هذا العلم، كما يظهر في النصوص، لم يكن مجرد معرفة بالشريعة أو الحكم، بل امتد إلى:
1. علم التواصل مع المخلوقات
> ﴿عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾
تليم “منطق الطير” ليس بالضرورة حرفيًا، بل قد يكون فهمًا للأنماط واللغات غير البشرية، وهو ما ينسجم مع مفهوم العلوم الإدراكية والذكاء الحيواني اليوم.
2. علم تسخير الرياح
> ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ…﴾
وهو تعبير يدل على القدرة على التحكم بالطاقة الطبيعية، أو على الأقل استخدامها بما يفوق قدرات زمنه بقرون.
3. علم استخدام الجن في البناء والبنية التحتية
> ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ…﴾
الجن هنا في القراءة العقلية يُمثّلون قوى غير مرئية بالنسبة للبشر:
إمّا قوى طبيعية، أو جماعات ذات مهارات خارقة للعادة بالنسبة للإنسان القديم، أو رمزًا لقدرة سليمان على إدارة موارد بشرية وغير بشرية بطريقة غير مسبوقة.
ثانياً: هل كان علم سليمان “شفرة فلكية”؟
تراث الشرق القديم يعج بإشارات تربط بين الحكماء والأنبياء وبين علم الفلك، حركة النجوم، هندسة الزمن، وتحديد المواقيت.
يشير بعض الباحثين إلى أن:
معرفة دورات القمر والشمس والنجوم كانت أساسًا لإدارة الجيوش والطرقات والزراعة.
القدرة على التنبؤ بالطقس والرياح الموسمية كانت توازي المعجزات في ذلك العصر.
التحكم بالرياح قد يشير إلى تقنيات بحرية وملاحية متقدمة، أو معرفة فلكية دقيقة.
لا شك أن سليمان – بحسب النصوص – امتلك معرفة استثنائية غير مألوفة لزمانه.
هذه المعرفة قد تُقرأ اليوم على أنها نوع من الذكاء العلمي الممزوج بالإلهام الإلهي.
ثالثاً: العلم كأداة للعدل لا للهيمنة
رغم سعة الملك وتمكينه في الأرض، فإن أبرز ما ميّز سليمان هو عدله:
> ﴿وَاشْهَدُوا لِي بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ﴾
العلم في تجربة سليمان لم يكن للسيطرة أو الاستعراض، بل لإقامة ميزان العدل.
ولهذا أصبحت قصته رمزًا للسلطة التي تُدار بالمعرفة لا بالقوة.
رابعاً: خلف النصّ… قراءة فلسفية
يمكن النظر إلى إرث سليمان عبر ثلاثة مستويات:
1. المستوى الديني
سليمان نبيّ مُكَّن بعلم من عند الله، وهذا يكفي لشرح قدراته.
2. المستوى التاريخي
قد يكون سليمان قائدًا يمتلك منظومة متقدمة للمعرفة في عصره:
فلك، هندسة، إدارة موارد، لغويات، وحوكمة.
3. المستوى الرمزي
تمثل قصة سليمان رمزية الإنسان الذي يُسخّر الكون بالعلم، لا بالسحر.
ولهذا جاءت الآية الحاسمة:
> ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾
لتقطع الطريق على الخلط بين العلم والشعوذة.
خامساً: لماذا يظلّ علم سليمان موضوعًا للبحث؟
لأن القصة تحمل جذور فكرة مركزية في الحضارة الإنسانية:
> “وراء كل إسناد خارق، يوجد علم حقيقي.”
قد يروى الحدث كمعجزة، لكن خلفه دائمًا معرفة كونية، ولو كانت غير مفهومة للناس في ذلك الزمن.
خاتمة
قصة النبي سليمان هي واحدة من أهم النماذج التي تربط بين الإلهام الإلهي والعلم البشري.
ملكٌ سُخّر له ما لا يُسخّر لغيره، لكن الميزة الأكبر لم تكن الرياح أو الجن، بل العقل الذي استوعب سنن الكون واستثمرها في العدل والإعمار.
إنّ قراءة علم سليمان اليوم ليست بحثًا عن قوى خارقة، بقدر ما هي تفكير في علاقة الإنسان بالمعرفة، وبالطبيعة، وبالكون الواسع الذي لا يزال يخفي الكثير.