“وقّعوا هنا”…
ثم تُطوى الصفحات، ويُعاد الشعب إلى مقاعد الانتظار، كأنه غير معنيّ بما يُكتب باسمه.
ذلك هو حال اليمن اليوم: بلدٌ حاضر بصورة خرائطه، غائب بصوت أهله؛ تحضر جغرافيته على الطاولة، وتغيب إرادته خلف جدران غرف التفاوض التي لا يقف عند أبوابها إلا ممثلو المصالح الإقليمية والدولية.
🔹 ما يُرسم لليمن في الصفقات السياسية ليس اتفاقًا للسلام، بل تقاسم نفوذ.
ليس مشروع دولة، بل إدارة مرحلة تُسَكَّن فيها الجبهات دون أن تُبنى المؤسسات.
من يفاوض اليوم لا يبحث عن يمنٍ يعيش بكرامة، بل عن يمنٍ “مضبوط الإيقاع” يخدم توازنات الإقليم ويمنع الانفجار.
يراد لليمن أن يكون هدنة دائمة بلا سلام، وساحة مفتوحة بلا سيادة، ودولة تعمل بقرارٍ خارجي لا بوعي داخلي.
🔹 كارثة اليمن ليست فقط في من يقود الحرب، بل أيضًا في من يُمثّل السلام.
فالمفاوض اليمني في كثير من المشاهد لا يتحرك كوكيل عن الشعب، بل كمندوب في قاعة تضبطها القوى المؤثرة.
يُطلب منه أن يُجزّئ القضية، أن يُخضع الثقافة للمعونة، وأن يحوّل السيادة إلى “ملف ثانوي” يمكن تأجيله.
وحين يعترض، تُلوّح أمامه “عصا التمويل المشروط”، أو “جزرة الدعم السياسي”، أو “ضرورة الحفاظ على التوازن”.
بهذا، يتحول الاتفاق السياسي إلى نص مكتوب بلغة الآخرين، يحمل توقيع اليمن لكنه لا يحمل روحه.
🔹 لا يمكن لورقة تُصاغ في عاصمة خارجية أن تُرمم مجتمعًا تمزق على امتداد أكثر من عقد.
السلام الذي لا يُبنى على توافق وطني حقيقي هو قنبلة مؤجلة.
اتفاق بلا شعب، وتمثيل بلا شرعية، ووعود بلا قدرة على التنفيذ.
هذا النوع من السلام لا يوقف الحرب…
بل يجعلها “تحت الرماد” بانتظار شرارة.
🔹 الدول التي تفقد قرارها لا تخسر سيادتها فحسب، بل تخسر حقها في المستقبل.
حين يصبح اليمن مجرد ملف في أجندات القوى الإقليمية والدولية، فلن تُبنى دولة، ولن تُحل أزمة، ولن تُرمم جبهة.
ستبقى اليمن “ورقة ضغط” تُستخدم ساعة التفاوض، و”ملفًا أمنيًا” يفتح حين تتصادم مصالح الكبار.
سلام اليمن الحقيقي يهدد شبكات النفوذ التي تربح من ضعفه.
🔹 إلى أين يقود هذا الطريق؟
إن استمرار هذا المسار يعني ثلاثة مخاطر استراتيجية كبرى:
تثبيت حالة اللا دولة وتحويل اليمن إلى فضاء نفوذ متعدد لا يخضع لقرار مركزي.
تعميق التشظي السياسي وتحويل مكونات الداخل إلى ملحقات لقوى الخارج.
تكريس اقتصاد تبعية يجعل أي نهوض مستقبلي مشروطًا ببقاء منظومات التمويل لا ببناء الدولة.
وهذا ليس مستقبلًا… بل قيدًا طويل الأمد.
🔹 ما الذي يجب أن يفعله اليمنيون؟
لا يكفي أن نرفض أن نكون غائبين…
يجب أن نصنع حضورًا يفرض نفسه على الطاولة.
هذا يتطلب:
موقف وطني موحد حول شكل الدولة ومستقبل السيادة.
رفض أي اتفاق يتجاوز المؤسسات اليمنية أو يفرض مسارات جاهزة.
إعادة تعريف العلاقة مع المانحين على أساس شراكة لا وصاية.
بناء قدرة تفاوضية وطنية تستند إلى رؤية لا إلى ردود فعل.
وإحياء الوعي الشعبي بأن السيادة ليست شعارًا، بل أساس السلام العادل.
🔹 اليمن ليس مقعدًا يُملأ عند الحاجة
ولا توقيعًا يوضع على ورقة ليخدم أجندة الآخرين.
اليمن قضية شعب، وتاريخ، وهوية، وإرادة.
وحين يغيب صوته، تتشوه الصورة كلها.
سيأتي اليوم الذي تُعاد فيه صياغة المشهد…
وحينها، لن تُكتب المعادلة خارج اليمن، ولن يُرسم المستقبل دون أيدي اليمنيين.
السلام الحقيقي لا يُمنح…
بل يُنتزع بإرادة واعية، وبحضورٍ لا يستطيع أحد تجاهله.
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الثلاثاء ١٨ نوفمبر ٢٠٢٥م