لم يعد السلام في اليمن مجرد كلمة مستهلكة، بل أصبح واجهة براقة تُدار بها صفقات السياسة بينما يبقى الشعب خارج الصورة. كلما تحرك مجلس الأمن للحديث عن “ضرورة الحل السياسي”، ينسى أو يتناسى حقيقة واضحة كالشمس: الحوثي هو من بدأ الحرب، وهو من رفض كل مبادرات السلام، وهو من اختار السلاح بدلًا عن الدولة، وهو من وسّع المعركة حتى البحر بزعم “نصرة غزة”، بينما لم تكن تلك إلا ذريعة لاعتداءات تهدد التجارة العالمية وتكسبه نفوذًا أكبر.
وأنا أتابع اليوم، مجلس الأمن يقول إن اليمن “لا يمكن أن تُحسم عسكريًا”، لكنه لا يقول إن الحوثي هو من حسمها عسكريًا ضد المدنيين. لا يقول إن آلاف العائلات شُردت بسبب المليشيا. لا يقول إن السلام الذي يطالب به يحتاج قبل كل شيء طرفًا مستعدًا للسلام أصلًا. وحين تخرج بيانات دولية تبدو حيادية باردة أمام واقع دامي، يشعر اليمني أن العالم يتعامل مع المجرم والضحية باعتبارهما “طرفين متنازعين”، لا باعتبار أحدهما قاتلًا والآخر شعبًا يبحث عن الحياة.
أما ورش “السلام” واللقاءات الخارجية، فهي أصبحت مجرد شعارات مكررة. يتم اختيار المشاركين كما تُختار ديكورات المسرح: الشكل أهم من المضمون. لا حضور للنازحين الذين يعيشون الجحيم. لا صوت للشباب الذين يدفعون ثمن الحرب والفساد. لا مكان للنساء اللواتي يدافعن عن أسرهن في مخيمات الغبار. المهم أن تكتمل الصورة… أما الحقيقة فلا تُسأل.
ولأن السلام أصبح حرفة للنخب لا حاجة للمجتمع، أصبح إنتاجه هشًا، ضعيفًا، بلا جذور. سلام لا يتحدث عن العدالة، ولا يقترب من المحاسبة، ولا يعترف بتضحيات من سقطوا دفاعًا عن الجمهورية. سلام يُكتب بالإنجليزية في الخارج، بينما يُكتب بالدم في الداخل.
ولا يمكن تجاهل ما فعله الحوثي في الحديدة وما تبعها من أوجاع: الألغام التي زرعت في الشوارع والبيوت والحقول، الأطفال والنساء الذين سقطوا ضحايا لها، المزارع التي دُمرت، البحر الذي تلوث، والحياة البرية التي انقرضت جزئيًا بفعل الحرب، كل هذا أصبح جزءًا من إرث الألم الذي تركته المليشيا لأجيال قادمة.
سلام كهذا، بلا محاسبة، بلا مشاركة حقيقية، بلا اعتراف بتضحيات الشعب، هو وصفة لاستمرار الصراع. كلما تجاهلت الجهات الدولية هذه الحقائق، ازداد الحوثي قوة، واستمر تدمير اليمن، وتعمقت المأساة الإنسانية. السلام الذي يُصاغ في الفنادق والبيانات الدولية، بعيد عن الواقع، ينسى أوجاع المواطنين ويضعف فرص التوصل إلى حل حقيقي.
اليمنيون بحاجة لسلام يبدأ بالاعتراف بالمسؤوليات، ويستمع إلى من دفعوا أثمان الحرب، ويحمي النازحين وأسر الشهداء والنساء والأطفال، ويعيد بناء الدولة والمجتمع. السلام الحقيقي ليس مجرد توقيع اتفاقية أو بيان دبلوماسي، بل عملية شاملة تشمل العدالة والمحاسبة، وتضع حدًا للانتهاكات، وتعطي صوتًا لمن فقدوه في سنوات الحرب.
حتى يحدث ذلك، ستبقى اليمن تعيش حربًا فرضتها المليشيا، وسلامًا فرضه الخارج، وكلاهما لا يشبه اليمن، ولا يحمي المدنيين، ولا يعكس تطلعات شعبه.
السلام الذي لا يعترف بالدماء والضحايا، ولا يلتفت إلى حقيقة ما جرى في الحديدة وما تركته من ألغام وأوجاع، هو مجرد شعار على الورق لا أكثر. واليمنيون لن ينتظروا بيانات أنيقة، بل يحتاجون إلى فعل حقيقي، إلى سلام يبدأ من الأرض، وليس من الفنادق، ويستعيد كرامة الدولة والمجتمع قبل أي شيء آخر.
سلام بلا وضوح… حرب مؤجلة. سلام بلا شجاعة… صفقة وقت. سلام بلا صوت الناس… لا يستحق أن يُسمى سلامًا.
اليمن لن تُنقذه بيانات، ولن تُصلحه لجان تُشكَّل من خارج واقعه. اليمن يريد سلامًا يبدأ من الميدان، لا من الفنادق. سلامًا يعترف بالجرائم، لا يجمّلها. سلامًا يستمع لليمنيين، لا يستبدلهم بوجوه تُعاد تدويرها.
حتى يحدث ذلك، سيظل السلام مجرد شعار على الورق، واليمنيون عالقون بين حرب فرضتها المليشيا… وسلام فرضه الخارج… وكلاهما لا يشبه اليمن.