آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-03:25م

نساء رائدات في النضال الوطني

الأربعاء - 29 أكتوبر 2025 - الساعة 12:38 م
احمد سالم فضل

بقلم: احمد سالم فضل
- ارشيف الكاتب


في سجلّ تاريخ السلطنة الفضلية، تبرز أسماء نساءٍ رائداتٍ حملن رسالة العلم والخير والإصلاح، وفي طليعتهن السيدة الفاضلة كاملة علي إسماعيل حقي تركي، حفيدة القائد العثماني إسماعيل حقي باشا، وزوجة الثائر السلطان أحمد بن عبد الله الفضلي، وأمّ الأمير علي بن أحمد الفضلي، أحد أعلام الجيل الفضلي الحديث الذي واصل نهج والديه في خدمة السلطنة وأبنائها.

رحلت السيدة كاملة بعد حياةٍ حافلة بالعطاء والإنجاز، خلّدها التاريخ الفضلي مثالًا للمرأة المتعلمة المؤمنة برسالتها، والزوجة الصالحة التي وقفت إلى جانب زوجها السلطان أحمد الفضلي في مرحلةٍ مفصلية من تاريخ السلطنة، وأسهمت بدورٍ محوري في نهضتها التعليمية والاجتماعية والوطنية.


التعليم... رسالة العمر:

آمنت السيدة كاملة منذ وقتٍ مبكر بأن نهضة الأمم تبدأ من التعليم، وأن المرأة المتعلمة هي حجر الأساس لبناء الأسرة والمجتمع. لذلك كرّست جزءًا كبيرًا من حياتها لخدمة التعليم، لا سيما تعليم البنات في السلطنة الفضلية، في وقتٍ كان التعليم فيه محدودًا ومحصورًا على فئات قليلة.

لم تكن إشرافاتها رمزية، بل كانت ميدانية فاعلة؛ تزور المدارس بنفسها، وتلتقي بالطالبات، وتحثهن على الاجتهاد، وتكافئ المتفوقات بالهدايا والرحلات الترفيهية إلى البحر. وقد تركت هذه اللفتات الأثر العميق في نفوس الطالبات والمعلمات، وغدت رمزًا للتشجيع والتحفيز في مجتمعٍ كان يتلمس طريقه نحو التعليم النظامي.

نهضة تعليمية بإرادة المرأة

تحت رعاية السلطان أحمد الفضلي، وبدعمٍ من السيدة كاملة علي إسماعيل حقي تركي، شهدت السلطنة الفضلية نهضة تعليمية غير مسبوقة، تمثلت في إنشاء مدارس جديدة وتوسيع فرص التعليم للفتيات. وكان لمبادراتها الاجتماعية أثر مباشر في تغيير نظرة المجتمع إلى تعليم البنات، إذ شجعت الأسر على إرسال بناتهن إلى المدارس، وأوجدت بيئة تربوية آمنة ومحفزة.

بفضل جهودها وإيمانها، بات تعليم البنات واقعًا راسخًا، وأضحى للمرأة الفضلية حضورٌ فاعل في المجتمع، حملت رايته فيما بعد أجيالٌ من المربيات والمعلمات اللاتي نهلن من فكرها وروحها الإنسانية.

المرأة والنضال الوطني

لم تكن السيدة كاملة بعيدة عن الحراك الوطني والنضالي الذي شهده جنوب الجزيرة العربية في منتصف القرن العشرين.

فقد وقفت إلى جانب زوجها السلطان الثائر أحمد بن عبد الله الفضلي، أول رئيس لاتحاد الجنوب العربي، الذي اتخذ موقفًا وطنيًا حازمًا ضد هيمنة الاستعمار البريطاني على الجنوب.

وفي تلك المرحلة الحساسة، لعبت السيدة كاملة دورًا بالغ الأهمية في دعم المقاومة والتحرك الوطني؛ إذ ساهمت في نقل الأسلحة والعتاد من ولاية عدن إلى السلطنة الفضلية، مستفيدةً من صلاتها الواسعة هناك ومن مكانة أسرتها التركية (آل حقي – آل تركي) التي كان لها حضور بارز في ولاية عدن آنذاك.

كانت المرأة التي تعمل بصمت وشجاعة، في ظل ظروف معقدة، تؤدي دورها الوطني دون أن تسعى إلى الظهور، مؤمنةً بأن خدمة الوطن واجبٌ مقدس لا يحتاج إلى أضواء. وقد ظلّ هذا الجانب من سيرتها معروفًا في أوساط القوميين والوطنيين في الجنوب، الذين قدّروا دورها وأشادوا بإخلاصها ونزاهتها.

سيدة الخير والإحسان

امتد عطاؤها إلى العمل الخيري والإنساني، حيث عُرفت السيدة كاملة بسخائها ومبادراتها في دعم الفقراء والأيتام والمحتاجين. كانت تزور الأسر بنفسها، وتواسي المحتاجين، وتقدّم المساعدات بصمتٍ وتواضع، مؤمنة بأن العطاء الحقيقي هو ما يُقدَّم دون رياء.

وقد أحبّها الناس لكرمها وصدقها وبساطتها، فكانت قلوبهم تفتح لها قبل بيوتهم، وذكراها الطيبة ما تزال حاضرة في ذاكرة من عرفها أو سمع عنها.

في المهجر... صوت الحكمة والإصلاح

بعد انتقالها إلى القاهرة مع أسرتها في فترات لاحقة، واصلت السيدة كاملة دورها الاجتماعي الرائد، فكانت وجهًا مضيئًا للجالية الفضلية واليمنية هناك، تجمع الناس على المحبة وتعمل على إصلاح ذات البين بين الأسر والأقارب، وتخفيف الخلافات بروحٍ من الحكمة والتسامح.

كانت مجالسها في القاهرة ملتقى للودّ والمشورة، حيث تستقبل أبناء السلطنة وأسرهم، وتغرس فيهم قيم التماسك الأسري والاحترام المتبادل. وقد عرفها الجميع بسعة صدرها وحكمتها الهادئة، فكانت مرجعًا نسويًا محترمًا في القضايا الاجتماعية، وصاحبة كلمة مسموعة في الصلح والخير.


أمّ الأجيال الفضلية

لم تكن السيدة كاملة أمًّا لأبنائها فحسب، بل أمًّا لأجيالٍ فضليةٍ نشأت على قيم العلم والأخلاق والإخلاص للوطن.

وقد ربّت أبناءها على حب السلطنة وخدمة المجتمع، وفي مقدمتهم الأمير علي بن أحمد الفضلي، الذي حمل راية والده السلطان أحمد الفضلي، وواصل نهج والدته في دعم التعليم والعمل العام، مؤكدًا أن ما غرسه الأباء والأمهات الأوائل في نفوس أبنائهم كان أساس استمرار العطاء في السلطنة الفضلية.

لقد ظلّ الأمير علي بن أحمد الفضلي نموذجًا للقيادة المتزنة والوفاء للإرث الفضلي الأصيل، يحمل في شخصيته صفات والده في الحزم والرؤية، ووالدته في الحكمة والرأفة والإنسانية.

نسبها وأصولها العثمانية – الفضلية

تنتمي السيدة كاملة علي إسماعيل حقي تركي إلى أسرة حقي التركية، وهي أسرة عريقة من أصول عثمانية، ينحدر منها القائد المعروف إسماعيل حقي باشا، الذي تولّى مناصب قيادية وإدارية بارزة في العهد العثماني.

ومن خلال زواجها من السلطان أحمد بن عبد الله الفضلي، دخلت هذه الأسرة في مصاهرة تاريخية مع آل فضل، إحدى أقدم الأسر الحاكمة في جنوب الجزيرة العربية، التي جمعت بين الأصالة العربية والانفتاح الثقافي.

وقد مثّل هذا الارتباط بين العراقة العثمانية والجذور الفضلية لقاءً حضاريًا راقيًا، كان له أثر بارز في نشر التعليم والثقافة في السلطنة الفضلية خلال القرن الماضي.

إرثٌ خالد وذكرى باقية

برحيل السيدة كاملة علي إسماعيل حقي تركي، فقدت السلطنة الفضلية واحدة من نسائها الرائدات، غير أن سيرتها العطرة بقيت حاضرة في ذاكرة الأجيال، شاهدةً على مرحلة من النهوض والتجديد والنضال من أجل الكرامة والعلم والوطن.

رحمها الله، وجعل ما قدّمته من علمٍ وخيرٍ وإصلاحٍ ونضالٍ في ميزان حسناتها، وخلّد اسمها في سجلّ النساء اللاتي صنعن التاريخ بصبرهنّ وإيمانهنّ، وجعل أبناءها وأحفادها امتدادًا لمسيرتها المباركة في خدمة الوطن والإنسان.