منصور الصبيحي.
اسشعارّا للخطر وحساسية الموقف، في سابقة من نوعها لم تألفها دبلوماسية البيت الأبيض من قبل، أربعة من معاوني الرئيس ( دونلد ترامب ) الكبار يتوسطهم نائبه ( فانس ) وذلك من بعد إعلانه إنجاز اتفاق شرم الشيخ يخلفونه على التو لزيارة اسرائيل الواحد تلو الآخر، لا يفصل بينهم سوى يوم إلى يومين، محاولين كما يبدو الرمي بثقلهم لإغلاق المساحات أمام الأخيرة من التنصّل والعودة للحرب من جديد، والتي من المؤكد بانّها باتت مصدومة وغير راضية بالتحوّل الذي طرى بشكل مفاجئ حيال مواقف ساعدت أمريكا على تمريرها ولعقود ومنذو ارتبطاطها بها.
وفي الوقت الذي كانت هي ترمي الطُعم تلو الطُعم، مطمئنة ككل مرة بالتخلص من وزن الحمل الثقيل الذي يقيد حركتها، واقفة تستثمر في محاربة حماس لقتل أهل غزة والتنكيل بهم، انتصارًا للهدف الذي تسير إليه من زمن طويل، وأخذت تكرّس اليوم لأجله التدمير والإبادة بشكل فجاجي، وبمواربة العالم، لتكتشف أنّها مازلت بعيدة يحجبها غبارٌ كثيف من الغلو والثقة الزائدة، والملياردير ( ترامب ) من تأمل فيه الحكم واللاعب الذي يمنحها بطاقة التأهل والفوز باستمرار، فجأة وعلى واقع المصالح الاستراتيجية والسفقات المليارية، فاق من تحت تأثير مخدر لوبيها اليهودي محملًا براية السلام، وأخذ ينصح وينادي بصوت عالٍ رأس هرمها “ إياك ومحاربة العالم”.
فجنوح أطياف العمل السياسي إلى التطرّف والوقوف صفًا واحدًا خلف رئيسهم نتنياهو متبنين خطابه الرافض مسألة حل الدولتين من أساسها، ربما دق ناقوس الخطر لدى الحليف والقوة العُظمى، عن مجتمع برمته بات يعاني من هاجس التطرّف، بدليل ما غدى ينتاب مؤسسته العسكرية اليوم من حالة الهيجان والمجاهرة بسوء العمل، وقد بدأ لها وكأنه يغادر مربع الوصاية والوظيفة التي زُرع من أجلها، ما أجبر تلك على الانتظار حتى ضمنت أنّ حماس التي كونها هي الأخرى مشكلة تقف عائقًا أمام فرص السلام وتحول دون تمرير أي تسوية من وجهة نظرها تراها مناسبة للطرفين، في حالة من الاستكانة والوهن لا يسمح لها العودة للتفرّد بالمشهد الفلسطيني من جديد، لتهرع لإنجاد نفسها والتخلّص من حمل غزة وبما سببته لها على مدار عامين متتاليين من الإحراج واللغط، وإن لم تفعل كان عليها تذهب في طريق لا يقف عند حدود رمال الأخيرة الناعمة فحسب؛ وإنما سيتجاوز بها إلى رمال أخرى تقابلها بمزيد من الإغراق لتصبح حينها تندب حظّها على ما عملت نادمة.
وبالعودة لطرحنا السابق عن تمرد اسرائيل على امريكا؟ في رأيي يوجد أمرين مهمين يمكن لنا الاستدلال بهما: فالمعلوم عنها بدأت حالها مسنودة بكبرى الدول الأوربية على رأسها بريطانيا ساعدتها على استيطان جزءًا بسيط من الأرض الفلسطينية بالسطو وبالشراء، وما لبثت بتأثير الهاجس الديني والأمني تندفع للتوسّع على كل الاتجاهات، مستغلة التفكك العربي الناتج عن الاستقطابات الحاصلة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي أبان ما سميت بحقبة الحرب الباردة، وفي غضون سنوات قلائل كبرت خارطتها بما لا يتناسب مع حجم سكانها ويتجاوز قدرتها على التغطية، وتلك ميزة لو استغلها العرب في حينها لكانوا عصفوا بها وبمشروعها من حيث لا تشعر، لتدرك هي خطأها وسوء المنقلب الذي لا تتمناه، وقبل أن ينتبهوا له حتى تسارع صوب عقد سفقات سلام مشبوهة، ظاهرها الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع، وباطنها اكتساب مزيدًا من الوقت بهدف الاستعداد والتأكّد بعوامل نجاح أخرى. واليوم لما بلغته من غطرسة وفائض قوة تتوازى به مع دول عظمى ويتعدى ما تمتلكه المنطقة بكثير، هي ترى أن الفرصة باتت مواتية لها ولو مرت عليها قد لا تتوفر في المستقبل مثيلها بالمطلق، ومن حيث أن الأبواب أمامها مفتوحة تدخل وتخرج متى وكيف ما شاءت، بما يوفّر عليها الجهد ويمكّنها من اختصار الطريق الشائك والطويل أمامها. بالمعنى ذاته: وسط النيران المشتعلة في كل مكان حولها هي تظن بأنّها أقرب اليوم ما تكون إلى هدفها، وما عليها سوى التحرّك وقبل أن تبرز متغيرات عالمية تعرقل مسارها وتفشل مساعيها، وربما تقود لنتيجة تفضي للقضاء على مشروعها للآخر.
وتاليه وبالنظر إلى الهيكل التنظيمي المتعلق بتكوينها السيادي وتطويره تطويرٌا يغلب عليه الطابع الديني، وتلك ميزة توالدت تحت ظلالها العنصرية ونمت وتوسّعت ديمقراطيًا، وتكاد تشمل جميع فئات الشعب تقريبًا، وبصعود نتنياهو والغلو الذي تقلّده كسلاح استعان به ووظفه توظيفًا براجماتيٌا مباشرًا في سبيل البقاء أطول فترة ممكنة على سدة الحكم، مما زاد في تأكيدة على نهجها لاسيّما وأنه كثّف جهوده محاولًا حينها إخرجها للإسرائيلين في قالب ديكتاتوري على طور مهده ومازال يأمل تنميته”، لما مكّن الأحزاب اليمنية المتطرّفة من شق طريقها نحو الكنيست بقوة، وليجد نفسه في الاخير محاصرًا بالعديد من الخصوم السياسيين، ما تورعوا يلفوه من كل جانب بقضايا الفساد والملفات الإدارية الساخنة، وتلك هي أم المعضلات العصيبة التي ليس لأحد فكّها إلا بزوال نتنياهو نفسه. ومن حيث أنها أصبحت من بعد ٧ اكتوبر يسّخر مردودها على طريق ضغط الرجل كي يستمر بالهروب للأمام، ممعنًا بالقتل والتدمير باعتباره ما يقدم عليه الفرصة الأخيرة التي ستمنحه الحصانة بعد تحويله إلى بطل قومي في عيون الإسرائيلين. يمكن لنا القول أنّ تمرّد اسرائيل وافتعالها الاختلاف والأزمات مع الأمريكان على ضوء ذلك أمرًا ما منه مفر، وإن لم يكن دفعة واحدة هو سيأتي متتدرجًا وعلى مراحل، تتوازى بداية مع مظهر ومضمون سيناريو جنوب لبنان وحزب الله، ليكتب على الوسطاء معها يترنحوا عند كل نقطة، منتقلين معها ببطء بين كل المراحل، تماطل هنا بأشيء وتتعلل بأخر، وبهدف أثبات قصور وتقاعص لدى الطرف المقابل، بنفس ما تفعل الآن إزاء تسليم رفاة الرهائن، ليتسنى لها تميّع الاتفاق وتميته سريريًا، وإن لم يساعدها الحظ ولم تتمكن، ستقوم بالانسحاب منه بشكل كلي، وحتى تهتدي بنجم جديد ولتبدأ معه مغامرة ورحلة جديدة، هى لن تبخل علينا في نسج مشاهد هوليوديية وحصرية من الرعب، ولن تمن على حواليها بالإبادة الجمعية وستجزل في العرض والعطاء في سبيل تحقيق هدفها مهما كلفها ذلك.
وعن أسئلة وجيهة المؤكد تدور في ذهن الكثير في حال حققت اسرائيل لا سمح الله مبتغاها وذلك بتصفية القضية الفلسطينية وتهويد المقدسات وما تخفيه في جعبتها من مفاجآت؟ ألا تفكر بالاستقرار وتنشد لأجيالها العيش الكريم بسلام وكيف لها أن تحصل عليه وهي منبوذة من محيطها؟ وهل كتب على المنطقة بسببها أن تبقى متوشّحة السلاح إلى مالا نهاية؟
من هنا تبرز أهميّة الأراضي التي احتلتها وتوسعها باستمرار كل ما سنحت لها الفرصة للقيام بذلك، وتقع من سوريا إلى لبنان إلى الأردن، كمصدر ألهُمت قديمًا إليه تراهن عليه في المستقبل لتعزيز موقفها، ومن بعد استكمال السيطرة على كامل فلسطين واختفاء خارطتها، ستشرع في استثمارها على طريق السلام والتطبيع، ومن خلال مساومة العرب لإرغامهم عن طريقها بالرضوخ وتعديل موقفهم منها مقابل إرجاع أجزاء منها أو كلها لأصحابها، والأخير ليس أمامه بغية تهدئة التوتر ويسود الأمن والاستقرار على المنطقة، بغية إزالة المعوقات التي تقف في طريق تنمية وتطوير شعوبها سوى الاذعان في النهاية.