من الأهمية بمكان التعريف بخط المُسند اليمني ودوره الحضاري واللغوي، إذ يَخلِط كثيرون بين الخط واللغة، في حين أن الفرق بينهما جوهري.
فـ خط المُسند ليس لغة بحد ذاته، بل هو نظام كتابة استخدمته شعوب جنوب الجزيرة العربية لتدوين لغاتها ولهجاتها القديمة، تمامًا كما نستخدم اليوم الخط العربي في كتابة اللغة العربية الحديثة.
اللغة والخط: فرق جوهري
اللغة هي الكلام والمعاني والتراكيب، أما الخط فهو الأبجدية أو الوسيلة الكتابية.
وقد كُتبت النقوش في اليمن القديم بلغات متعددة تُعرف مجتمعة باسم اللغة العربية الجنوبية القديمة، وتشمل لهجات:
السبئية، القتبانية، المعينية، الأوسانية، والحضرمية.
وبما أن تلك النقوش عكست لهجات القبائل المحلية في ممالك اليمن القديمة، فقد اختلفت .أدوات التعريف فيها (مثل “الـ”) من منطقة إلى أخرى، وهو ما يمثل أحد المفاتيح الأساسية لفهم أصول اللهجات اليمنية القديمة (القحطانية والحميرية) وعلاقتها باللهجات المعاصرة.
أداة التعريف في العربية الفصحى
في العربية الفصحى تُستخدم أداة التعريف "الـ" للدلالة على التعريف، مثل: البيت، الرجل، الصحراء.
غير أن اللهجات اليمنية القديمة والحديثة احتفظت بأشكال أخرى من أدوات التعريف متوارثة من لغات العرب الجنوبيين القدماء، ما يعكس عمق التنوّع اللغوي في اليمن.
أولاً: "أم" التعريف
تظهر في لهجات أبين، يافع، ردفان، لحج، البيضاء، وأحيانًا في يافع السفلى وبعض قرى شبوة.
وتُنطق "أمـ" بدل "الـ"، مثل:
أمْصره = الصُّرّة (الحقيبة أو الربطة)
أمْبيت = البيت
أمْرجل = الرجل
الأصل التاريخي:
تعود هذه الصيغة إلى "ن" أو "أم" التعريف في اللغة الحميرية القديمة، إذ استخدمتها القبائل الحميرية بدل "ال"، ولذلك تُعد من بقايا الحميرية في لهجات الجنوب الأوسط اليوم.
ثانيًا: "بـ" أو "با" التعريف
تُستخدم في حضرموت، المهرة، سقطرى، وأجزاء من شبوة، وتُلفظ "با" قبل الاسم وتلازم أسماء الأشخاص والأماكن، مثل:
با حاج = الحاج
با سالم = الرجل المسمّى سالم
با عوض = الشيخ أو السيد عوض
الأصل التاريخي:
جذورها في اللغة الحضرمية القديمة، وهي مستمرة حتى اليوم في الأنساب الحضرمية (مثل بافقيه، بامخرمة، باشراحيل).
وتُستخدم للدلالة على النسبة أو الملكية أو التعريف حسب السياق.
ثالثًا: "ألـ" الفصحى
تظل “الـ” مستخدمة في اللهجات الشمالية (صنعاء، ذمار، صعدة، إب، تعز)، مع اختلافات صوتية طفيفة:
في صنعاء: تُلفظ ثقيلة نوعًا ما (ألْبيت).
في تهامة: تُخفف وتتحول إلى “لْ” أحيانًا (لْبيت).
الأصل التاريخي:
هي استمرار مباشر للفصحى القرشية، أي أنها أقرب للهجة العربية الوسطى.
رابعًا: غياب أداة التعريف
في بعض مناطق المهرة وسقطرى (خصوصًا في اللغتين المهرية والسقطرية) لا توجد أداة تعريف واضحة، بل يُفهم التعريف من النغمة أو السياق.
مثلاً: هابيت قد تعني "البيت" بحسب النغمة، وهي تتفق في بنيتها مع "الـ" التعريف في اللغة العبرية.
الأصل التاريخي:
تُعد المهرية والسقطرية لغات سامية جنوبية قديمة موازية للعربية، وليست فروعًا منها.
مقارنة مختصرة لأدوات التعريف في اللهجات اليمنية
المنطقة أداة التعريف مثال باللهجة المعنى
صنعاء، ذمار، إب، تعز الـ البيت البيت
تهامة (الحديدة، زبيد) ال / ل لبيت أو أم بيت البيت
أبين، لحج، يافع أم أمصره الصرة
حضرموت با با حاج الحاج
المهرة، سقطرى بدون أداة أو بأداة قديمة هابيت البيت
إنَّ اختلاف أداة التعريف بين اللهجات اليمنية القديمة يُعدُّ من أهم المفاتيح لفهم النقوش اليمنية بخط المسند، غير أن عدم إدراك هذه الفروق من قِبل بعض الباحثين أدى إلى أخطاء في ترجمة النصوص القديمة.
ويُضاف إلى ذلك تغيّرٌ في حروف نهاية الكلمات، إذ يحل الميم محل النون في بعض النقوش، مما يستدعي من الباحثين إعادة النظر في عدد من الترجمات المعتمدة سابقًا.