في يمنٍ أنهكته الصراعات وتبددت فيه أحلام الاستقرار، تكشف خطابات سبتمبر المتناقضة عن مأساة عميقة؛ بين خطابات
منفى تفتقر إلى العمق الواقعي، وخطابات داخلية تُدار بمنطق الإنكار، يغني كل طرف على ليلاه، فيما يستمر المواطن اليمني
في دفع الثمن الأكبر.
المفارقة أن الشمال ما يزال يراوح مكانه؛ الوجوه نفسها تتكرر منذ أكثر من ستة عقود، وجوه مهزومة وقديمة لم يتبدل
حضورها منذ سبتمبر 1962 وما قبله. بدا وكأن الشعب قد سلَّم مصيره لهذه الفئات التي تتحكم في حاضره ومستقبله، فبقيت
المخرجات على حالها رغم العواصف والأزمات التي عصفت بالبلاد. في المقابل، شهد الجنوب تبدلًا في القيادات وصعود
وجوه جديدة بفعل الحراك الجنوبي والحرب الأخيرة، في مؤشر على اختلاف البنية السياسية والاجتماعية بين الجانبين.
إن المشهد اليمني الحالي ليس استثناءً طارئًا، بل هو حصيلة تراكمات تاريخية متشابكة لم تُعالَج جذورها، بل جرى تدويرها
في دوامة الصراعات والولاءات الضيقة. الفارق الجوهري بين الشمال والجنوب أن الشمال ظل أسير تركيبة قبلية-عسكرية
تتحكم في القرار، فيما شهد الجنوب محاولات متكررة للتغيير وإفساح المجال أمام قيادات جديدة رغم أزماته العميقة.
في ظل هذا الوضع المعقد، من غير الواقعي انتظار حلول تنبثق من تفاهمات داخلية أو خطابات سبتمبر الوهمية. لقد أصبح
لزامًا على الإقليم والمجتمع الدولي فرض حلول واقعية تراعي مصالح اليمنيين ومصالح الإقليم والعالم معًا.
هذا التفاوت خلق بيئة سياسية غير متكافئة تجعل أي مشروع وطني شامل يصطدم بجدارين: واقع تقليدي متحجّر في الشمال،
وطموحات متجددة في الجنوب. وإذا استمرت هذه الهوة، ستتحول كل مبادرة للحل إلى هدنة مؤقتة لا أكثر، ولن تصل إلى
مصالحة وطنية حقيقية.
إن ربط مصير الجنوب بالمشهد الشمالي المعقد وترحيل مشاكله إلى الساحة الجنوبية أمر يرهق أبناء الجنوب ويُهدد استقرار
الإقليم والمجتمع الدولي. السلام في اليمن يبدأ من تمكين القوى الجديدة — وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي —
ومنحها القدرة على إدارة مناطقها بالكامل، بالتوازي مع العمل على تفكيك قبضة القوى التقليدية في الشمال: من بقايا الإمامة
إلى بقايا نظام صالح وآل الأحمر والقوى القبلية والجماعات المتطرفة، التي عبثت باليمن وزرعت العراقيل على مدى عقود.
العمل مع القوى الوطنية - النادرة - في الشمال يتطلب تكاتفًا حقيقيًا من الجنوب المستقل ودعمًا إقليميًا ودوليًا حتى تتمكن من
النهوض وتحرير الشمال من عنجهية القوى الظلامية التي تناشد بعودة ما قبل سبتمبر أو ما بعده؛ تلك القوى نفسها التي كبّلت
اليمن في قيود الفساد والظلام. ويجب أن يتحول دور الإقليم والعالم من دعم الأفراد إلى دعم المؤسسات، ومن إدارة الأزمات
إلى الدفع باتجاه بناء دولة حقيقية في الشمال.
من دون هذا التحول الجذري، سيظل المشهد اليمني متأرجحًا بين خطاب المنفى وخطاب الداخل، وستظل الحلول مؤجلة، فيما
تستمر حالة عدم الاستقرار في التأثير على الجميع. أما السلام الحقيقي، فلن يتحقق إلا عندما تتلاقى إرادات الداخل والخارج
في مشروع مشترك قادر على كسر الحلقة المفرغة التي حكمت اليمن لعقود، وإنقاذ ما تبقى من البلاد بعد أن بلغت معاناة
المواطنين ذروتها وفاقت كل التصورات .