آخر تحديث :الثلاثاء-16 سبتمبر 2025-11:17ص

رجال سبتمبر، لوحاتٌ في الذاكرة ووثيقةُ عهدٍ للمستقبل

الثلاثاء - 09 سبتمبر 2025 - الساعة 08:59 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب


(هذا المقال الثالث ضمن سلسلة مقالات سبتمبر الثورة)



بلادي ويا قبلة الثائرين

ويا منبع النور لن تُقحَمي

أنا بعضُ مافي ثراكِ الطهور ومن ذا إلى الأرض لا ينتمي؟

بكِ أقسم الشعب ألا يعيش

بقيْدٍ على الساق والمعصم

ولن ترتضي غير شمس بها

دماءُ الأضاحي التي من دمي

ولن ترتدي غير هذا الصباح

صباحٌ يحييكِ، فلتسلمي 🇾🇪🇾🇪


لم تولد ثورة 26 سبتمبر من فراغ، ولم يكن أبطالها قصصًا معزولةً عن بعضها؛ إنهم خيطٌ واحدٌ منسوجٌ من شمال البلاد وجنوبها، من جبال صنعاء إلى بحر عدن. في قلب كل لوحةٍ منهم حكايةُ وعيٍ يشتبك مع السلاح، وكلمةٌ تشعل بندقية، ودمٌ يتقدّم ليصنع طريق الجمهورية.


الزبيري… ضمير الثورة ونَفَسها


كان محمد محمود الزبيري صوتًا يسبق الطلقة. لم يكن شاعرًا يُطرّز المعلّقات، بل شاعرًا يخرق بها جدار القهر. في عدن والقاهرة وغرف الأحرار الضيقة، كان الزبيري يمزج البيان بالفعل، يكتب ليُقاتل، ويقاتل ليحمي ما كتب.


النعمان… عقل الثورة وحكمتها


أحمد محمد النعمان أسّس للوعي كما يؤسَّس لجيش. يقرأ فقه الدولة الحديثة ويترجمه إلى خطاب شعبي. كان يدرك أن الجمهورية لا تقوم بالشجاعة وحدها، بل بعقلٍ يُحسنُ البناء بعد الهدم.


الثلايا… المُقدَّمُ نفسه قربانًا


في تعز، مارس 1955، وقف أحمد الثلايا على حافة المقصلة وأدار ظهره للخوف. لم تكن ثورته مجرّد حركة ضباط؛ كانت استباقًا لولادة سبتمبر، وصفعةً على وجه “المشروع السلالي”. رحل الثلايا وبقي السؤال الذي زرعه في صدور اليمنيين: هل يُحكم البشر بالنسب أم بالعقد؟ جاء سبتمبر بعد سنوات ليردّ عمليًا: بالعقد والاختيار.


القردعي… الرصاصة التي فتحت نافذة


علي بن ناصر القردعي خرج من صحراء مأرب كأنّه يمشي من صميم كرامتها. رصاصته التي أسقطت الإمام يحيى عام 1948 لم تكن نهاية قصةٍ، بل افتتاحية لمسرحية طويلة ختمت فصولها الأولى في 26 سبتمبر. دفع حياته ثمنًا، وورّث اليمنيين درسًا: أن الكهنوت مهما تحصّن بالقصور والسلالات، يتهشّمُ أمام إرادةٍ تعرف الطريق إلى الهدف.


عدن… الحاضنة التي فتحت النوافذ


في الجنوب، كانت عدن مِحْضنَ الفكرة ونافذة اليمن على العالم. هناك كتب محمد علي لقمان، وبشراحيل، وباذيب، وفتحت الصحف صفحاتها ليُفضح الكهنوت. ومن عدن صدحت “صوت اليمن” للزبيري والنعمان، فصار للكلمة جناحان يطيران شمالًا، يوقظان القرى والمدن على وعد الجمهورية.

ولم يقتصر الدور على الفكر. فقد تقاطعت البنادق والقلوب: كثير من الجنوبيين قاتلوا الإمامة جنبًا إلى جنب مع الجمهوريين. وتروي شهادات وروايات أن قحطان الشعبي كان في مرحلة مبكرة ضمن الدائرة السياسية المتعاونة مع فريق عبد الله السلال، يقوم عمليًا بدور أشبه بوزير دولة لشؤون الجنوب في التنسيق والتواصل، جسرًا بين ثورة الشمال ومعركة التحرر في الجنوب؛ وعلى اختلاف الروايات، تبقى وحدة الهدف هي الحقيقة الأوضح.


رجالٌ من أبين … حين مشى الجنوب إلى صنعاء


من أبين خرج عبد الله المجعلي قائدًا لإحدى فرق القتال لكسر حصار السبعين عن صنعاء، يسابق الدخان ليشقّ طريق الجمهورية وسط ركام البيوت.


ومن ابين جاء المشهد الذي لا يخطئه التاريخ:


محمد أمفضل عبيد الصالحي، خريج الكلية الحربية في مصر، يقود لواءً في السوادية، يزحف على مواقع الإمامة، يُحاصَر، يُطلب إليه الاستسلام فيأبى، ثم يقاتل حتى اللحظة الأخيرة وهو يعلم أن الرصاصة التي ستُسكت قلبه لن تُسكت الفكرة.


أحمد خيران العسل الحسني يروي بدمه جبال صنعاء وهو يتصدّى لجيوش الملكيين في حصار السبعين؛ يصعد الجبل كأنه يصعد سلّم السماء، ثم ينزل شهيدًا يترك وراءه طريقًا مفتوحًا للداخلين إلى المدينة.

ولم تكن هذه الأسماء وحدها؛ يقول الرواة : أن رجالا من ابين مشوا على الأقدام حتى شبام كوكبان شمال صنعاء تلبيةً لنداء الجمهوريين، وهناك التحقوا بالجيش المصري ووقفوا صفًّا واحدًا يدافعون عن العاصمة ونظامها الوليد. هكذا كان الجنوب يمشي إلى الشمال، وكلاهما يمشي إلى اليمن الواحدة.



لوحاتٌ تتجاور… لتكتمل الصورة


حين تضع هذه اللوحات جنبًا إلى جنب، ترى خريطة جمهورية أكثر من كونها خريطة معارك: شاعرٌ يوقظ، ومفكّرٌ يهندس، وقبائلُ تسند، وعدنُ تُنير، ومقاتلون من أبين ودثينة وكوكبان ينسجون خيط الدم على خيط الفكرة. سبتمبر هنا ليس تاريخًا مؤطرًا، بل تيارًا ممتدًا: كلما حاول الكهنوت أن يعود، وجد أمامه هذا التيار ينهض من تحت التراب.


نفَسٌ شعريٌّ يَصِلُ الماضي بالحاضر


ليس غريبًا أن يتردّد في سماوات سبتمبر صدى البردوني: “المجد للشعب والحكم المطاع له”؛ فهذا هو المعنى الذي صاغته البنادق والبيانات معًا. وفي خلفية المشهد تسمع أنفاس الزبيري، وتلمح حكمة النعمان، وترى ظلّ الثلايا على مقصلة الطغيان، وتشمّ رائحة تراب دثينة الممزوج بعرقِ رجالٍ حملوا صنعاء في وجدانهم.


سبتمبر الحيّ… خطابٌ للآن وهنا


إذا كان هؤلاء رفاق الخلود، فما الذي نفعله نحن اليوم؟

سبتمبر ليس مزارًا نزوره، بل طريقًا نمشيه. على الحكومة أن تتكلم بلسان الزبيري: أن تجعل الحقَّ أولًا، وأن تُقيم مؤسساتٍ تُشبه حلم النعمان بالدولة الحديثة. وعلى الجيش والمقاومة أن يتقدّموا كالصالحي وخيران: يقاتلون وهم يعلمون أنّ الثمن النفس ولكن العائد وطن. وعلى الشعب أن يثبت كما ثبتت قبائل اليمن شمالا وجنوبا وشرقا وغربا: وحدةُ صفٍّ تُسقط كل وصاية، وتردّ على عنصرية الكهنوت بوطنٍ يتّسع للجميع. وعلى النخب والإعلام أن يحملوا مشعل عدن: أن تكون الكلمة نافذةً لا مرآةً، وأن تصوغ الوعي سلاحًا يسبق الطلقة.


هذا هو العهد الذي نُجدّده: ما بدأه الزبيري والنعمان والثلايا والقردعي ورجال أبين واليمن قاطبة، لن ينقطع عند جسر 2014؛ فالمشروع السلالي الحوثي قد يعيد أشباح الماضي إلى الشوارع، لكنه لا يستطيع أن يعيدها إلى قلوبنا. قلوبنا حُفرت عليها كلمة واحدة: الجمهورية. ومن تحت هذا النقش، تمشي خُطا اليمنيين إلى صبحٍ آخر من أصباح سبتمبر… صبحٍ نُتمّ فيه ما بدأه الشهداء الخالدون.

ولن ترى الدنيا على ارضي وصيا ،،،

،،،،،،،،،،،،

✍️ عبدالعزيز الحمزة

الثلاثاء ٩ سبتمبر ٢٠٢٥م