آخر تحديث :Sun-26 Oct 2025-01:28PM

حلمُنا الآتي أن يعود الماضي !

الثلاثاء - 09 سبتمبر 2025 - الساعة 05:54 م
عبدالناصر صالح ثابت

بقلم: عبدالناصر صالح ثابت
- ارشيف الكاتب


في عدن، حيث يسبق البحرُ الشمسَ في احتضان المدينة، وحيث الموج يخطّ قصائده على رمال الساحل الذهبي، يظل حلمنا أن

تعود الأيام كما كانت؛ بسيطة كضحكة طفل، نقية كنسمة بحر، ومفعمة بجمال التفاصيل التي منحت الحياة يومًا معنى وبهاء.

نحلم أن يعود ساعي البريد يطرق الأبواب حاملًا رسائل الشوق والطمأنينة، وأن تتوسّد خطوط المشاة الطرق كجسور تحفظ

كرامة العابرين، وأن تضيء إشارات المرور شوارع المعلا وكريتر والتواهي بنظامها الذي كان يزرع الطمأنينة ويجعل المدينة

أكثر اتساقًا وانسجامًا.

نحلم بعودة نوافير التواهي وهي ترش رذاذها البارد في وجه الصيف، وبالمجمعات التجارية والتعاونيات القديمة التي كانت

تغنينا عن المولات والأسواق الحديثة، تلك التي تعرض الزي المدرسي الأبيض والسروال الكاكي، رمز الانضباط والجدية،

حين كانت المدرسة مصنعًا للأمل ومحرابًا للجد والاجتهاد.

نحلم أن نرتشف الشاي العدني في المقاهي، حيث تتقاطع الوجوه على الأرصفة، وتنسج الابتسامات خيوطًا من الألفة على أنغام

طاهر مصطفى المفعمة بالشوق، ونتبادل أحاديث الحياة ونحن نتصفح الصحف والجرائد بين أيدينا، نستقرئ منها حاضرنا

ونستشرف بها مستقبلًا مجهولًا.

نحلم أن تعود باصات النقل العام تملأ الشوارع بحركتها، نصطف في المواقف، ونستمتع بأصوات تخريم التذاكر التي كانت

تحفظ إيقاع المدينة. تفاصيل قد تبدو عابرة، لكنها في جوهرها كانت تصنع لوحة متكاملة: مدينة آمنة، يسكنها النظام، ويغمرها

المعنى.

نحلم بعودة الانتظار أمام أكشاك الصحف، نتسابق على شراء النسخ اليومية، ونقف أمام دور السينما نقرأ إعلاناتها المعلقة على

الجدران ونحجز مقاعدنا. نحلم بالاستماع إلى أغاني أم كلثوم من مذياع يحمله كهل على قارعة الطرق الآمنة، وبنشرة

الصيدليات المناوبة في ليالي المدينة، وبأصوات الموظفين في مناوباتهم الصباحية وهمتهم في المناوبات الليلية.

نحلم بعودة حديقة الحيوانات والملاهي، وأن نرتاد السواحل ونفترش رمال الساحل الذهبي وساحل أبين، نغرس أيدينا في ترابها

لنستنشق رائحة الحياة في مدينتنا الحبيبة عدن.

نحلم أن نتزاحم أمام شباك التذاكر في ملعب الحبيشي، ونقف أمام كافتيرات كريتر نشاهد المباريات بصوت المعلق محمد سعيد

سالم، ونقفز عاليًا لنلمح أبوبكر الماس وجميل سيف وهما يخطّان المتعة فوق المستطيل الأخضر. كانت الحياة في عدن مختلفة،

حتى البحر فيها كان له رائحة أخرى، تفوح بالبخور والفل، كأنها توقيع خاص لا يشبهه مكان آخر.

ونعشق الماضي الذي فقدناه، فنرنو إلى صيرة وجبل شمسان، وننظر إلى المعلا في منتصف الليل وكأنها نيويورك صغيرة

تعانق الأضواء. نصحو على أصوات الغربان التي يهرب منها العالم، لكنها في عدن كانت نغمة للتفاؤل وبشارة ليوم جديد.

واليوم، تعيش عدن على هامش ذاكرتها، تبحث عن خلاص بين حطام الحاضر وصور الماضي. ومع ذلك، فإن حلمنا الآتي أن

يعود الماضي ليس استسلامًا للزمن، بل توقًا إلى استعادة الروح: روح النظام، والأمان، والكرامة، والانتماء.

إننا لا نطلب المستحيل، بل نحلم أن تعود الحياة كما عرفناها؛ أن تعود عدن المدينة والحضن الكبير، وحين تعود، تعود معها

الحياة إلى الجنوب، وتنهض المدينة من جديد، لتظل كما كانت: مدينة للحب، للحياة، وللإنسان