آخر تحديث :الإثنين-08 ديسمبر 2025-01:22م

الحقيقة المفقودة في متاهة السرديات

الخميس - 04 سبتمبر 2025 - الساعة 01:39 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


في ساحة المعرفة الإنسانية، يقف التاريخ كحجر زاوية في فهم الذات والمجتمع والحضارة، فهو ليس مجرد سجل للماضي بل هو أساس الهوية ومدرسة للتجربة ومنبع للحكمة. لكن هذه المكانة الرفيعة تجعله أيضاً ساحة لصراع خطير، صراع بين من يسعون لإعادة بنائه على أسس متينة من الأدلة والوثائق والمنهجية النقدية، وبين أولئك الذين يحاولون كتابته بشكل سردي محض، مجرداً من أي سند أو مصادر أو مراجع تاريخية، محولين إياه من علم إلى أسطورة، ومن بحث إلى دعاية. هذه الظاهرة ليست مجرد خطأ أكاديمي، بل هي جريمة فكرية لها آثارها العميقة والمدمرة على الأجيال القادمة.

إن كتابة التاريخ كسردية خالصة، تخلق واقعاً موازياً مريحاً لفئة معينة أو أيديولوجيا مسيطرة، تعني فصل الماضي عن حقيقته الموضوعية. فهي لا تقدم تفسيراً للأحداث بقدر ما تفرض رواية واحدة، مغلقة ومقدسة، تخدم غرضاً آنياً في الحاضر على حساب الحقيقة التاريخية. مثل هذه الممارسة تستبدل التعقيد بالتبسيط، وتستبدل تعددية الروايات بصراع الخير والشر الأسطوري، وتستبدل السند الوثائقي بالعاطفة الجياشة والخطاب الشعبوي. وفي هذا الصدد، يحذرنا الكاتب والفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا بمقولته الشهيرة: "أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم بتكراره". إن كتابة التاريخ دون سند هي حرمان متعمد للأجيال من "تذكر" ماضيها الحقيقي، مما يحكم عليها بتكرار أخطائه ومآسيه إلى ما لا نهاية، وكأنها تدور في حلقة مفرغة من الجهل والعنف.

الآثار على الأجيال القادمة تكون كارثية ومتعددة الأوجه. أولاً، تفقد هذه الأجيال هويتها الحقيقية. فالهوية التي تُبنى على أساطير وأكاذيب هي هوية هشة، كبيت من ورق، قابلة للانهيار عند أول مواجهة مع أدلة تناقضها. هذا يخلق أزمة وجودية جماعية، حيث يشك الفرد في كل ما تعلمه عن ماضيه، وبالتالي عن حاضره ومستقبله. ثانياً، يتم تجريدهم من أدوات التفكير النقدي. فالتعلم من التاريخ الذي يُقدم كمسلمات غير قابلة للنقاش أو التشكيك يقتل فضول السؤال ويقضي على روح الشك المنهجي، مما ينتج أجيالاً متلقية سلبياً، سهلة القياد والتضليل. ثالثاً، يتم تغذية نزعات التعصب والصراع. فالروايات التاريخية المزورة غالباً ما تُصمم لتمجيد الذات الجماعية وتصوير "الآخر" – سواء كان عرقاً أو ديناً أو فكراً مختلفاً – كعدو وجودي وخطر دائم، مما يغذي الكراهية ويقوض أي إمكانية للمصالحة أو التعايش السلمي في المستقبل.

في هذا الصدد، تذكرنا كلمات الفيلسوف البريطاني جورج أورويل في روايته النبوئية "1984": "من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي". هذه العبارة تكشف جوهر الخطر السياسي لكتابة التاريخ دون سند. فالقوى التي تسيطر على رواية الماضي تمنح نفسها شرعية مطلقة في الحاضر وسلطة لا حدود لها على المستقبل. إنها عملية استيلاء على الوعي الجمعي، حيث يصبح "النسيان المنظم" و"التذكر المفروض"، كما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، أداة للهيمنة. فإما أن تمحو من التاريخ ما يزعج روايتك، أو تخلق أحداثاً لم تحدث لتحقيق غاياتك، وفي كلتا الحالتين أنت تقطع صلة الأمة بجذورها الحقيقية وتغتال ذاكرتها.

لا يمكن مناقشة هذا الموضوع دون الاستشهاد بمقولة الفيلسوف الألماني غوته: "ليس أسوأ من معلم لا يَعْرِف سوى ما يجب أن يعرفه تلاميذه.". الأجيال التي ترث "معرفة خاطئة" بتاريخها محكوم عليها باتخاذ قرارات خاطئة في حاضرها. كيف يمكن لها أن تحكم بشكل عادل، أو أن تتصالح مع جيرانها، أو أن تبني مؤسسات قوية، إذا كانت قناعاتها مبنية على أوهام؟ إنها تشبه قبطاناً يبحر بخريطة مزورة، ومصيره الضياع أو الغرق حتماً.

في الختام، فإن معركة الدفاع عن التاريخ الحقيقي، القائم على السند والمصدر والمراجعة النقدية، ليست معركة أكاديمية نخبوية. إنها معركة وجودية من أجل مستقبل أكثر وعياً وعدلاً وسلماً. حماية التاريخ من التزوير السردي هي حماية للعقل من التجهيل، وللضمير من التزييف، وللإنسانية من تكرار مآسيها. إن مسؤولية المؤرخ الجاد، والمفكر النزيه، وكل فرد غيور على الحقيقة، هي مقاومة هذه السرديات الزائفة، ليس فقط بالكشف عن تناقضاتها، بل وبإعادة بناء الذاكرة الجماعية على أساس متين من الحقائق التي، كما قال المهاتما غاندي، "تبقى دائماً هناك، حتى لو تم تجاهلها أو إساءة تفسيرها مؤقتاً". فقط بذلك نضمن للأجيال القادمة إرثاً حقيقياً يمكنهم البناء عليه، بدلاً من أن يرثوا عبئاً من الأكاذيب سيجبرهم، عاجلاً أم آجلاً، على هدمه والبدء من جديد.