في خضم ما يُوصف بـ"مهزلة الهبوط" التي شهدها مايسمى "سوق الصرف" خلال يومي 30 و31 أغسطس 2025، اندفعت أقلام كثيرة لتوجيه الاتهامات للبنك المركزي ولشبكة الصرافين التي راكمت الأرباح على حساب مدخرات الناس إلا أن ما غاب عن كثير من التحليلات الإقتصادية هو السؤال الجوهري الذي يتجاوز سطحية لوم المؤسسات: ألم يكن الشعب نفسه شريكًا في ما جرى؟
بعيدًا عن العاطفة وبالعودة إلى منطق الاقتصاد وسلوكيات السوق نجد أن كل أزمة مالية لا تولد من قرار فردي أو تواطؤ مؤسسي علني فقط بل تُولد أيضًا من رحم سلوك جماعي شعبي غير عقلاني.
اندفاع مئات المواطنين لصرف ما يملكونه من عملات صعبة بمجرد تراجع السعر بصورة مفاجئة دون انتظار توضيح رسمي من البنك المركزي أو دراسة ما إذا كان هذا الهبوط مستدامًا أم لا، هو سلوك لا يمكن وصفه إلا بالانتحار المالي الجماعي.
ما الذي أجبر الناس على الذهاب إلى الصرافين؟ لا قانون فرض عليهم ذلك، ولا تعميم رسمي دعاهم لتصريف العملات ، بل العكس كان من الحكمة التريث والاحتفاظ بالدولار أو الريال السعودي، وهي عملات لم تكن معرضة للخسارة أصلاً. لكن الذعر والتسابق غير المدروس كانا كافيين لخلق حالة هلع تحولت إلى موجة عارمة قادت إلى انهيار الثقة وفتح شهية المضاربين لابتلاع السوق.
في الحقيقة، لعب المواطن العادي دورًا فاعلًا في إنجاح هذه اللعبة القذرة لقد منح المتلاعبين ما كانوا يحتاجونه تمامًا تدفقًا مفاجئًا للعملات الصعبة بأسعار متدنية مكّنهم من إعادة شرائها لاحقًا بأرباح هائلة .
وهنا لا بد من الاعتراف الصريح لسنا دائمًا ضحايا وأحيانًا نكون الجلاد نفسه بصمتنا وتسرعنا وبسلوكنا الجماعي غير الواعي ، إن من يبيع مدخراته في لحظة اضطراب هو من يضع نفسه فريسة سهلة ومن يكرر هذا السلوك مرارًا هو من يضفي عليه شرعية ضمنية، ويمهّد الطريق أمام من يتلاعب به ماليًا.
كما إن المفارقة الكبرى تكمن في الخطاب العام نفسه؛ حين ارتفع السعر، بكى الناس من الغلاء، وحين انخفض، صرخوا من الخسارة. وكأن السوق يجب أن يُفصَّل على قياس مزاجهم، لا على منطق الاقتصاد والعرض والطلب.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط مساءلة البنك ومحاسبة الصرافين – وهذا واجب لا يسقط – بل أيضًا مراجعة ذاتية شجاعة نتساءل فيها: هل نحن شعب قادر على التعامل مع الأزمات بوعي؟ هل نملك ثقافة مالية تؤهلنا للصمود أمام التلاعب؟ أم أننا ننساق بالانطباع والذعر، ونترك عقولنا عند أول هبوط في السعر؟
إن الحياة الاقتصادية لن تتوقف إذا ارتفع الصرف أو انخفض، لكن الهلع الجماعي هو ما يصنع الكارثة ، لا بد أن نكف عن تمثيل دور الضحية كل مرة. فالحكمة تقول: "من يُلدغ من الجحر مرتين، لا يُلام من لدغه، بل يُلام هو على غفلته."
#لنفكر_بعقل
#لا_للذعر
#المواطن_شريك_في_الإنقاذ_أو_الانهيار