آخر تحديث :الأربعاء-08 أكتوبر 2025-12:50ص

العقد الاجتماعي… من الفلسفة إلى الواقع المعاش يمنيًا!

الثلاثاء - 26 أغسطس 2025 - الساعة 06:48 م
د. محمد عبدالمجيد قباطي

بقلم: د. محمد عبدالمجيد قباطي
- ارشيف الكاتب


مقال شيق للباحث فهد سليمان

الشقيران في صحيفة الشرق الأوسط (24 أغسطس 2024) بعنوان «قبل الدستور… أين العقد الاجتماعي؟»، 
أثار نقاشات متجددة حول مفهوم «العقد الاجتماعي» كشرط سابق على أي دستور أو بناء سياسي. فالأزمة في دول عربية عديدة، من لبنان إلى العراق وسوريا، 
لا تكمن في غياب نصوص دستورية، بل في غياب عقد جامع يحدد معنى المجتمع نفسه ويؤسس لقواعد التعايش.


*أطروحة الشقيران: المجتمع قبل النص*  
الفكرة الجوهرية التي يطرحها الشقيران بسيطة وعميقة: لا قيمة لدستور من دون عقد اجتماعي راسخ، لأن الدستور بلا أرضية توافقية سيبقى ورقًا هشًّا سرعان ما تنهشه الصراعات. ومن هنا يعود إلى الفلسفة السياسية الحديثة ليستلهم من روسو وهوبز وراولز أسس العقد الاجتماعي الذي يقوم على تنازل الأفراد عن بعض مصالحهم الخاصة لصالح العيش المشترك، وعلى عدالة تفتح الفرص أمام الجميع دون تمييز.

*من الفلسفة إلى اليمن*  
في اليمن، لم يتبلور عبر تاريخه الحديث عقد اجتماعي صلب. فبعد الاستقلال في الجنوب عام 1967 والثورة في الشمال عام 1962، ثم إعلان الوحدة عام 1990، لم يُطرح ميثاق جامع يحدد بوضوح أسس العلاقة بين الدولة والمجتمع وبين الشمال والجنوب. ما جرى كان دساتير تُصاغ ثم تنهار تحت وقع الغلبة العسكرية أو الهيمنة المركزية.

القضية الجنوبية مثال صارخ على غياب هذا العقد. فالوحدة، التي كان يُفترض أن تؤسس لشراكة متكافئة، تحولت إلى منظومة هيمنة مركزية أخلّت بالميزان السياسي والاقتصادي، وأدت إلى حرب 1994 وما تلاها من تهميش وطمس للحقوق. من هنا، فإن أي حديث عن عقد اجتماعي جديد لا يمكن أن يتجاهل معالجة مظالم الجنوب وضمان حقه في شراكة حقيقية، سواء في إطار اتحادي أو فدرالي، أو عبر صيغ مبتكرة تحترم التعدد وتضمن العدالة.

*تجربة الحوار الوطني… الفرصة الضائعة*  
لقد كانت مخرجات الحوار الوطني (2013–2014) أقرب محاولة لبناء عقد اجتماعي جامع: عالجت القضية الجنوبية، طرحت الفدرالية، أكدت مشاركة المرأة والشباب، وتحدثت عن توزيع عادل للسلطة والثروة. لكن الانقلاب الحوثي–الصالحي، وما رافقه من اغتيالات وإرباكات، أفشل المسار، فبقيت المخرجات نصوصًا بلا تطبيق، ولم تتحول إلى وثيقة مؤسسة لعيش مشترك.

*ما الذي نحتاجه اليوم؟*  
الدرس واضح: اليمن يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، لا إلى دستور فحسب. عقد يحدد قواعد اللعبة السياسية ويعيد صياغة هوية جامعة تقوم على:  
- المواطنة المتساوية: لا سلالة ولا مذهب ولا جهة أرفع من أخرى.  
- الاعتراف بالتنوع: تحويل التعدد المناطقي والمذهبي إلى مصدر قوة، لا ذريعة صراع.  
- عدالة انتقالية: تنصف الضحايا وتعالج جراح الحرب بروح وطنية، لا بمنطق الانتقام.  
- لامركزية عادلة: تتيح تقاسم السلطة والثروة بصورة منصفة، عبر صيغة اتحادية أو فدرالية تراعي خصوصيات الأقاليم، وفي المقدمة الجنوب.  
- مصالحة وطنية شاملة: تجعل العقد الاجتماعي أرضية جامعة، والمصالحة وسيلة لترجمته إلى واقع معاش.  

*خاتمة*  
إن اليمنيين، وقد أنهكتهم الحروب والانقسامات، مدعوون إلى إعادة اكتشاف ذاتهم الجماعية عبر عقد اجتماعي جديد يؤسس للعدالة والمساواة، ويعالج المظالم التاريخية، وفي مقدمتها القضية الجنوبية. ذلك وحده الكفيل بتحويل المصالحة الوطنية من شعار إلى مسار، وبناء دستور يحيا في وجدان الناس لا في رفوف النخب.

إن العقد الاجتماعي ليس ترفًا فلسفيًا، بل هو حجر الزاوية لأي مشروع وطني. ومن دونه، ستظل الدساتير مجرد نصوص عابرة، والمصالحات مجرد هدَن هشة. أما بوجوده، فقد يجد اليمنيون الطريق أخيرًا لعبور زمن التمزق إلى رحاب الدولة الجامعة والعيش المشترك الآمن.