آخر تحديث :الثلاثاء-19 أغسطس 2025-01:11م

محمد عابد الجابري ونقد العقل العربي.. دعوة لتحرير الفكر من أسر الموروث

الإثنين - 18 أغسطس 2025 - الساعة 05:40 م
د. محمد عبدالمجيد قباطي

بقلم: د. محمد عبدالمجيد قباطي
- ارشيف الكاتب


مشروع فكري في مواجهة المأزق الحضاري العربي

يُعد مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي من أبرز المشاريع الفكرية التي شهدها العالم العربي المعاصر، وأحد القلائل الذين امتلكوا الجرأة والمنهجية لتفكيك البنية الذهنية التي صاغت طرائق تفكيرنا عبر قرون، وأسهمت في إنتاج التكرار والجمود والانغلاق. على مدى أكثر من ربع قرن، لم يكتفِ الجابري بوصف أزمة الفكر العربي، بل انخرط في عملية تشريح عميقة لجذور المأزق الحضاري، مستندًا إلى تحليل داخلي للتراث، لا إلى قطيعة معه، مع توظيف أدوات معرفية ومناهج حديثة تنتمي لحقول الفلسفة واللسانيات وعلوم الإنسان والمجتمع.


وقد جاء هذا المشروع في سياق تاريخي وسياسي عربي مأزوم، حيث فشلت محاولات النهضة في القرن التاسع عشر وبداية العشرين في ترسيخ أسس عقلانية مستدامة. هنا، أدرك الجابري أن معضلة العرب ليست في نقص الأفكار أو في غياب الشعارات، بل في بنية العقل ذاته وآلياته، وهي الفكرة التي جعلت مشروعه مختلفًا عن معظم محاولات الإصلاح الفكري السابقة.


أربعة أعمال كبرى وبنية ثلاثية للعقل العربي

تتجلى رؤية الجابري في أربعة أعمال كبرى: تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي،

العقل السياسي العربي، و العقل الأخلاقي العربي. في هذه المؤلفات، ميّز بين ثلاث بنيات رئيسية للعقل العربي: البياني، والعرفاني، والبرهاني، ورأى أن فهم توازن القوى بينها هو مفتاح إدراك مسار الفكر العربي عبر العصور.


العقل البياني: هيمنة النقل على العقل

العقل البياني، المتشكل في بيئة علوم اللغة والفقه والبلاغة، لعب دورًا محوريًا في تنظيم المعرفة العربية الإسلامية، لكن خطورته ظهرت حين تحوّل إلى منظومة مغلقة تقدّم النقول على العقول، وتُعلي من شأن التكرار والحفظ على حساب الإبداع والنقد. هذا النمط، كما يراه الجابري، ساهم في تقييد طاقات العقل الاستدلالي، وأرسى مركزية للنصوص بلا مساءلة، ما أفسح المجال لهيمنة الفكر التقليدي الذي يعيق التجديد. ومن المفارقات أن هذه الهيمنة استمرت حتى في عصور شهدت احتكاكًا مع ثقافات أخرى، إذ ظلّ النقل مهيمنًا على أدوات الفهم.


العقل العرفاني: المعرفة كحدس غامض

أما العقل العرفاني فتمثل في تيارات التصوف والباطنية والمعرفة السرّانية، حيث تُختزل المعرفة في الحدس والكشف الشخصي والتجربة الباطنية. ورغم ما في التصوف من قيم روحية وأبعاد إنسانية، يرى الجابري أن هذا النمط أضعف حضور العقل البرهاني لصالح تأويلات فردية لا يمكن إخضاعها للمراجعة أو التحقق. وبهذا، استبدلت المعايير الموضوعية بمقاييس ذاتية، ما حدّ من قدرة المجتمعات على بناء نسق معرفي عقلاني.


العقل البرهاني: مشروع النهضة المؤجَّل

في المقابل، يثمّن الجابري العقل البرهاني الذي ازدهر في بيئة الانفتاح العلمي للدولة العباسية، وبلغ ذروته مع ابن رشد الذي مثّل نموذجًا للعقلانية النقدية والمنهجية. هذا النمط، القائم على المنطق والبرهان، كان يمكن أن يشكل قاعدة متينة لنهضة فكرية عربية، لولا أن مدّ البيان والعرفان قوضه وأقصاه. ومن هنا، دعا الجابري إلى إحياء هذا النمط وتوطينه، باعتباره مدخلًا لا غنى عنه لتحديث الفكر العربي واستعادته زمام المبادرة الحضارية.


العقل السياسي العربي: القبيلة والعقيدة والغنيمة

في قراءته للعقل السياسي العربي، صاغ الجابري ثلاثية شهيرة ما تزال تتحكم في السياسة العربية: القبيلة، والعقيدة، والغنيمة. هذه الثلاثية تعيد إنتاج الولاءات الشخصية والمصالح الفئوية على حساب مؤسسات الدولة الحديثة. ويقترح الجابري كسر هذه الحلقة المفرغة عبر تحويل العقيدة إلى رأي قابل للنقاش، والغنيمة إلى اقتصاد منظم، والقبيلة إلى مجتمع مدني يشارك في صياغة القرار لا في توريثه.


أثره وإرثه

أثار مشروع الجابري جدلًا واسعًا واستقطب ردودًا متباينة، أبرزها من المفكر جورج طرابيشي الذي خاض سجالًا طويلًا معه، وإن أقرّ في الوقت ذاته بعمق مشروعه وجرأته. واللافت أن كثيرًا من خصومه عادوا لاحقًا إلى الاستفادة من أدواته التحليلية، ما يعكس رسوخ بصمته الفكرية.


دعوة متجددة

في ظل الانسدادات الفكرية والسياسية التي يعيشها العالم العربي اليوم، تعود الحاجة إلى الجابري بوصفه منبهًا إلى أن النهضة تبدأ من نقد العقل نفسه، لا من استيراد الحلول الجاهزة. فالسؤال الذي طرحه – "كيف نفكر؟ ولماذا نفكر كما نفكر؟"– ما زال جوهريًا، ولا سبيل إلى تجاوزه إلا بشجاعة نقدية تعيد تأسيس علاقتنا بالتراث، لا لقطعه ولا لتقديسه، بل لاستثماره في بناء مستقبل أكثر عقلانية وانفتاحًا.



محمد عابد الجابري (1935–2010) مفكر وفيلسوف مغربي، أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس في الرباط، اشتهر بمشروعه النقدي الكبير في قراءة التراث العربي الإسلامي، وله إسهامات بارزة في قضايا العقلانية، والنهضة، وتحديث الفكر العربي.