آخر تحديث :الخميس-25 ديسمبر 2025-09:25م

الإغراق... وهم

السبت - 26 يوليو 2025 - الساعة 03:32 م
د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود

بقلم: د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود
- ارشيف الكاتب


يُروى أن جارًا في حيٍّ قديم ضاق بصوت صغار جاره، فادّعى الإزعاج، واتخذ من الحجارة وسيلةً للاحتجاج. لم يكن يتوقّع أن الجار المسالم، الذي طالما ظنّه ضعيفًا، سيكشف عن بأسٍ لم يره الجيران من قبل. فارتبك، وسارع يستنجد بشذّاذ الآفاق من الأزقة المجاورة، مستميلًا إياهم ببعض قوارير البيبسي وفتاتٍ من المقرمشات. فتحالفوا معه، وصبّوا غضبهم على بيت الجار المكلوم؛ لا بابًا أبقوا، ولا شباكًا سلم، حتى مزراب الماء لم ينجُ من عدوانهم. تهدّل سقف البيت، وتصدعت جدرانه، وأوشك أن يسقط.


ولمّا أراد المعتدي أن يبدو للعابرين رجلَ رحمةٍ لا غدر، أظهر عطفًا مصطنعًا على أبناء الجار الذي شرّد أهله، وضمّهم إلى داره، موهمًا أنهم "من أهل البيت"، مع شيءٍ من التحقير والتعالي. وما كان ذلك إلا ليحظى بعين الحواري الأخرى بلقب العمدة.


توسّع نفوذه شيئًا فشيئًا، حتى استولى على كل أرجاء الدار... إلا غرفة واحدة استعصت عليه، فقد أُحكمت أبوابها وتحصّنت بسكانها. فدسّ إليها الغرباء من المرتزقة وسكنهم حيث استطاع، وظن أنه بذلك قد أتم السيطرة. لكن أصحاب الغرفة لم يستسلموا، وكادوا له كيدًا، حتى لم يجد بُدًّا من الاعتراف بأن لهم كيانًا مستقلًا لا يندرج تحت وصايته.


وما إن ترسّخ له البيت، حتى ضيّق الخناق على من بقي من أهل الدار الأصليين، فأنكر حقوقهم، وحمّلهم أثقال المعيشة، مع أنهم بالكاد يملكون ما يسدّون به رمقهم. بقي ينوح ويتباكى على تلك الغرفة التي لم يفلح في اقتحامها، زاعمًا أنها جوهر البيت ودرّته.


ولم تمضِ أيام، حتى رأيناه يعلّق صورة جارٍ جديد على مدخل داره، ويأمر أبناءه أن ينشدوا: "جارنا ودارنا واحدٌ لا يفترقان". والأعجب أن الجار الجديد صدّق هذه المسرحية، كما صدّقها الأبناء المطرودون، الذين لم يعودوا إلى بيوتهم إلا حديثًا، ولا يزالون يصفقون!


فهل يوشك المشهد أن يُعاد؟ وهل ستكون الكرّة هذه المرة أقرب مما نُظن؟


د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود