1- مقدمة: قصف محدود، رسائل غير محدودة
في يونيو 2025، نفّذت القوات الأميركية بأمر من الرئيس دونالد ترامب ضربات دقيقة على ثلاث منشآت نووية إيرانية في نطنز وفردو وأراك. ورغم محدودية العملية من حيث النطاق العسكري، فإنها حملت رسائل استراتيجية أبعد مما بدا ميدانيًا. فقد اختارت واشنطن أهدافًا نووية بحتة، وتجنّبت المساس بمنشآت الحرس الثوري أو منصات الصواريخ أو قيادة النظام، ما يطرح تساؤلًا جوهريًا: هل كانت الضربة تحذيرًا ضمن إطار ردع محسوب، أم جزءًا من صفقة غير معلنة تُبقي على النظام مقابل التخلي عن القنبلة؟
2- حدود القصف وحدود النية السياسية
اللافت في هذه الضربات ليس ما استُهدف، بل ما تم تجاهله. إذ لم تشمل العملية أذرع إيران الإقليمية، ولا منظومات الردع التقليدية التي تُستخدم لبسط النفوذ من بغداد إلى صنعاء. الرسالة الضمنية بدت واضحة: الخط الأحمر هو النووي، أما ما دونه فمسموح أو قابل للتفاوض. هذه المقاربة تعكس سياسة أميركية تختزل التهديد في امتلاك القنبلة، بينما تتجاهل أدوات التمدد الفعلي التي تعتمدها طهران عبر وكلائها الإقليميين.
3- معادلة غير معلنة: لا قنبلة مقابل بقاء الأذرع
يبدو أن واشنطن اختارت مقايضة ضمنية: وقف البرنامج النووي مقابل ترك أدوات السيطرة الإقليمية دون مساس. بهذا، تحتفظ إيران بما تعتبره الأثمن: نفوذها الممتد من لبنان إلى اليمن. وفي نظر ترامب، قد تُعدّ هذه المعادلة “صفقة رابحة” تجنب واشنطن التورط في حرب واسعة، مع تحقيق إنجاز رمزي. وما يعزز هذه الفرضية تصريحات متزامنة من واشنطن وطهران تفيد بوجود نافذة تفاهم غير معلن تضمن وقف التخصيب دون تهديد بنية النظام.
4- استراتيجية طهران: النووي كورقة وليس غاية
منذ توقيع الاتفاق النووي في 2015، تعاملت إيران مع برنامجها النووي كورقة ضغط لا كهدف نهائي. ما تريده طهران هو تعزيز شرعيتها داخليًا، وتكريس دورها الإقليمي عبر أدوات غير تقليدية: ميليشيات محلية، شبكات استخباراتية، ونفوذ اقتصادي يتجاوز الحدود. التخلي المؤقت عن التخصيب العالي قد لا يكون سوى مناورة لتفادي الردع الأميركي، دون تقديم تنازل فعلي. بل إن الضربة الأخيرة وفّرت لطهران فرصة لتعزيز جبهتها الداخلية وتسويغ التصعيد بالوكالة.
5-تحذير أم تفويض؟ الخليج في حيرة واليمن في مرمى النار
في العواصم الخليجية، لم تُقرأ الضربة كرسالة ردع صارمة، بل كإشارة إلى حدود التدخل الأميركي. وقد تُفسَّر من قبل طهران كضوء أخضر لتكثيف نفوذها في الملفات “ما دون النووي”، من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر. وفعلاً، تصاعدت خلال الأيام الأخيرة هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية، كما شهدت الحدود اللبنانية-الإسرائيلية تصعيدًا غير مسبوق. هذه التطورات توحي بأن طهران قرأت الضربة كفرصة لتوسيع هامش المناورة، وليس كقيد جديد على تحركاتها.
خاتمة: ضربة بلا استراتيجية شاملة؟
تُجسِّد الضربات الأميركية الأخيرة خيارًا محسوبًا لحصر المواجهة في الملف النووي، دون الدخول في صدام شامل مع النظام الإيراني أو شبكاته الإقليمية. لكن هذه الانتقائية تخلق فراغًا استراتيجيًا، لأنها تمنع امتلاك القنبلة دون كبح أدوات الهيمنة التقليدية، ما يجعل من الضربة مجرد تأجيل لانفجار أكبر، لا وسيلة لمنعه. واللافت أن مؤشرات هذا الانفجار بدأت تظهر فعلًا عبر التصعيد المتدرج لأذرع إيران، وتباين مواقف الحلفاء بشأن فاعلية الردع الأميركي.
تذييل: اليمن والخليج في مرمى “اللاستراتيجية” الأميركية
في اليمن، يجسّد الحوثيون نجاح “استراتيجية ما دون النووي” الإيرانية. لديهم ترسانة صواريخ ومسيرات وقدرة على تهديد الملاحة الدولية، دون أن يكونوا على رادار الرد الأميركي. تجاهلهم لم يكن خطأً تقنيًا، بل قرارًا سياسيًا يعكس فصلًا خطيرًا في الرؤية الأميركية: استهداف النووي وتجاهل الصاروخ. أما في الخليج، فقد بدأت بعض الدول بمراجعة تحالفاتها الأمنية، في ظل شعور متزايد بأن الضمانات الأميركية لم تعد كافية. وهذه “اللاستراتيجية” لا تُضعف طهران فقط، بل تقوّض أيضًا الثقة بين واشنطن وشركائها الإقليميين، وتفتح المجال أمام سباقات تسلّح وتكتلات قد تخرج عن حسابات واشنطن.