اليمن اليوم ليس مجرد بلد يعاني من حرب داخلية، بل هو مسرح مفتوح لصراع إقليمي تُمارَس فيه أشكال متعددة من الهيمنة تحت عباءة التحالف والدعم. منذ اللحظة التي أعلن فيها تشكيل "التحالف العربي" (لإعادة الشرعية)، بدا جليًا أن ما يجري ليس سوى مشروع لوصاية غير معلنة، وُظفت فيه الشعارات لتبرير أطماع جيوسياسية واقتصادية عميقة.
دخلت الأطراف الأراضي اليمنية بقوة السلاح، مستخدمتين ذريعة إعادة الشرعية، لكن سرعان ما تبيّن أن تلك الشرعية لم تكن سوى ورقة استخدموها ثم مزقوها. لم تكتف الدولتان بدعم السلطة الرسمية، بل أنشأتا ميليشيات موازية خارجة عن الجيش اليمني، في خرق واضح لمبدأ السيادة الوطنية كما تنص المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجرّم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. دولة دفعت بتشكيل ميليشيات مثل "الحزام الأمني" في عدن، و"النخبة الشبوانية" و"النخبة الحضرمية" في الجنوب، وساهمت في تمويل الحراك الانفصالي، بينما عمدت الاخرى إلى دعم جماعات قبلية وسلفية في الشمال لضمان نفوذها على طول الحدود، في مشهد يُظهر تمزيقًا مقصودًا للنسيج الوطني. وكما يقول الدكتور عبد الله النفيسي: "حين تنشئ دولة ميليشيا داخل دولة أخرى، فإنها لا تنقذها، بل تمزقها لصالح أجندة جغرافية أو اقتصادية".
التاريخ القريب يُظهر تناقضًا فجًّا في تعامل احد الدول المجاورة مع جماعة الحوثي، حيث كانت في ذروة خلافها مع علي عبد الله صالح، تدعم الحوثيين سرًا في صعدة كأداة لكسر نفوذه، حتى إذا ما تغيّر ميزان المصالح، تحولت الجماعة ذاتها إلى عدو وجودي. هذه الازدواجية خلقت وحشًا لم يعد من الممكن السيطرة عليه، بل أجبرهم الحوثيون لاحقًا على الدخول في مفاوضات مباشرة بعد سنوات من الحصار والقصف. وهنا يتضح أن من يصنع المليشيات بدعوى "الضرورة" غالبًا ما يكون أول من يكتوي بنارها لاحقًا.
أما في الجانب الإنساني، فقد دفع اليمنيون الثمن مضاعفًا. القصف الجوي المتواصل دمّر محطات الكهرباء والمنشآت الحيوية، وترك ملايين المواطنين في ظلام دائم. الوعود بمشاريع "إعادة الإعمار" التي أطلقتها دول التحالف لم تكن سوى دعاية إعلامية، إذ لم يُنفذ منها شيء يُذكر، بل ازدادت معاناة الناس بانهيار البنية التحتية والخدمات الأساسية. وتحوّلت أزمة المياه إلى كارثة صحية، إذ دُمّرت شبكات المياه والصرف الصحي، ما أدى إلى تلوث شامل وعودة مرض الكوليرا في ظل عجز كامل للمنظومة الصحية.
ومع ذلك، فإن الدولتين اللتين صنفتا نفسيهما ضمن رعاة "الوصاية الدولية المؤقتة" على اليمن وفق ما ورد في المادة 77 من ميثاق الأمم المتحدة، لم تقدما الحد الأدنى من التزامات الرعاية أو الإغاثة، بل عملتا بشكل ممنهج على تعطيل المؤسسات وتجويع الناس. وقد جاء في دراسة صادرة عن "تشاثام هاوس" البريطاني: "لم يُستخدم نظام الوصاية الدولي لفرض السيطرة على الشعوب، بل لحمايتها وتطوير مؤسساتها، أما ما يحدث في اليمن فكان تدميرًا ممنهجًا تحت مظلة الشرعية".
الحصار الاقتصادي أجهز على ما تبقى. فُرضت قيود مشددة على المطارات والموانئ، ومُنعت السفن من الوصول إلى المرافئ اليمنية، ما خلق أزمة غذاء غير مسبوقة. أصبحت اليمن من أكثر دول العالم جوعًا، والمساعدات الإنسانية لم تُوزع بحسب الحاجة بل بحسب الولاءات، تُمنح للمناطق الخاضعة لنفوذ التحالف أو المليشيات، وتُحرم منها المناطق الخارجة عن السيطرة، في انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي الإنساني.
وهنا، لا بد من التوقف عند المفارقة الكبرى التي يتعمد كثيرون تجاهلها. فبينما تُوَجَّه أصابع الاتهام إلى دولة اسلامية باعتبارها المتسبب في دمار بلدان كالعراق واليمن ولبنان وسوريا، يُغضّ الطرف عن الدور التخريبي الذي قامت به هذه الدول في ليبيا، والسودان، والصومال، واليمن نفسه. فما الفرق بين تدخل الدوله الاسلامية الذي يُدان ليل نهار، وبين تدخل دول النفط الذي يُغلف بالدعاية ويُقدّم كنجدة؟ فكلاهما وجهان لمشروع واحد: تفكيك الأوطان لمصلحة النفوذ والسيطرة. والمفارقة الأعظم أن من يشيطن التشيع والشيعة بوصفهم خطرًا وجوديًا على الأمة، يغضّ الطرف عن من وصفهم بعض الباحثين بـ"السنة المتصهينين"، وهم أولئك الذين يقيمون تحالفات أمنية وعسكرية واقتصادية مع العدو الصهيوني، ويتبنون أجنداته بحجة "الواقعية السياسية". فأين ذهبت المعايير؟ ومن يُدين التدخلات الطائفية، ألا يجدر به أن يُدين العمالة العلنية؟
والأدهى من ذلك كله، أن هذه الفجوة تُملأ بأصوات شيوخ وأدعياء دين يبررون الباطل، ويموهون الحق، ويستغلون منابرهم لتضليل العامة، بفتاوى مضللة تخدم الطغيان وتُضلل الرأي العام. لحىً تُرفع على رؤوسها عمائم الفتنة، تنطق بما لا تُؤمن به، وتقبض الثمن من دماء الشعوب ومآسيهم. وقد قال رسول الله ﷺ: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيسٌ من رحمة الله" (رواه ابن ماجه). فويلٌ لهؤلاء من رب العباد، يوم لا تنفع الأموال ولا الألقاب، يوم تُسأل كل نفس عما كسبت، وتُسأل الألسن عن ما نطقت، والضمائر عن ما سكتت. قال الله تعالى: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ" [الصافات: 24].
وسط كل هذا الخراب، ورغم القتل، والتشريد، والجوع، والصمت الدولي، ما زال اليمنيّ صامدًا، يكتب وجعه بحبر الدموع، وينقشه على جدار الصبر والتاريخ. لم تُفلح كل مشاريع التفتيت في إطفاء جذوة انتمائه، ولم يركع رغم كل المحن. فاليمن ليس ساحة فارغة، بل أرض حضارة ومقاومة، وشعبه لم يعرف الخضوع، وإن طال ليله. وكما قال المؤرخ هاورد زن: "التاريخ لا يُكتب بأقلام الأقوياء فقط، بل بأوجاع الشعوب وصمودها".
وهذا الصمود لن يبقى صامتًا إلى الأبد.
فالعالم اليوم مُطالَب بالوقوف في وجه جرائم الحرب العلنية والواضحة، والمجتمع الدولي أمام اختبار أخلاقي حقيقي: إما العدالة أو التواطؤ.
وقد آن الأوان لأحرار اليمن الحقيقيين ـ لا المدّعين ـ أن يوثّقوا كل دمٍ أُهدر، وكل دارٍ هُدِّمت، وكل جائعٍ حوصِر، وكل مغتربٍ حُورب في رزقه وأُجبر على الهجرة.
ليكون هذا التوثيق ملفًا يُرفع يومًا ما أمام المحاكم الدولية، للمطالبة باستعادة الحقوق والتعويضات.
وجدير بالذكر أن الشرفاء من أبناء اليمن، وبجهودهم الخاصة، ودون تدخل أي عميل من داخل الدولة المختطفة، قد بدؤوا في جمع الأدلة التي تثبت تجاوز تلك الدول وتفريطها في سيادة اليمن، وتهجيرها لشعبه، سواء داخل البلاد أو خارجها.
فكل ذلك مرصود، وهم ليسوا وحدهم من يطلق الذباب الإلكتروني لتشويه الحقائق؛ بل هناك شرفاء يعملون على توثيق كل تلك الانتهاكات، بدقة وإصرار.
> "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ" [الشعراء: 227]
ابن اليمن
د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود