آخر تحديث :الجمعة-04 يوليو 2025-05:24م

الغياب الذي دوّى

السبت - 28 يونيو 2025 - الساعة 10:57 م
عبدالعزيز الحمزة

بقلم: عبدالعزيز الحمزة
- ارشيف الكاتب


قراءة استراتيجية في موقف جماعة الحوثي من الحرب الإيرانية-الإسرائيلية


مقدمة:


حين اندلعت نيران الحرب بين إسرائيل وإيران في واحدة من أكثر الجولات التصادمية حساسية في المنطقة، كانت الأنظار تتجه نحو أذرع طهران المنتشرة في الإقليم، بحثًا عن أي ارتجاجات ميدانية تؤكد وحدة "محور المقاومة" في زمن الامتحان الحقيقي. ولكن الغريب – بل الصادم – أن أحد أبرز أذرع ذلك المحور، جماعة الحوثي، اختار أن يقف على رصيف الانتظار، متفرجًا على المعركة دون أن يُطلق صاروخًا أو يسيّر طائرة، بالرغم من امتلاكه ترسانة من القدرات الهجومية التي لطالما تفاخر بها في تهديد الملاحة والمصالح الإسرائيلية والأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن.


هذا السلوك الفاتر ــ غير المسبوق ــ طرح جملة من الأسئلة العميقة:

هل انكفأ الحوثي بسبب العجز أم التواطؤ؟

هل توقّف عن دعم إيران لأسباب تكتيكية أم لأنه يعيد تعريف تحالفاته وخصوماته؟

وهل لا يزال الحوثي "ذراعًا مخلصة" لطهران؟ أم أنه أصبح مشروعًا مستقلاً يُعيد رسم خرائطه بناءً على أولوياته الذاتية لا على أجندة الوليّ الفقيه؟



---


أولاً: التصعيد الإيراني وسكوت الحوثي — مفارقة اللا-تضامن


الحرب التي دامت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل كانت اختبارًا واقعيًا لجدية التحالفات العابرة للحدود التي لطالما تغنى بها "محور المقاومة". إذ شنت إسرائيل ضربات مؤلمة على عمق إيران، شملت مواقع عسكرية وبنية تحتية أمنية، فيما ردّت طهران بصواريخ وطائرات انطلقت من أراضيها لا من أراضي وكلائها.


جماعة الحوثي ـ التي لم تتردد في استهداف السفن التجارية العالمية بدعوى نصرة غزة ـ التزمت الصمت الكامل، وكأن المعركة لا تعنيها. لم تُطلق صاروخًا واحدًا باتجاه إيلات أو تل أبيب، ولم تهاجم المصالح الأمريكية في البحر، ولم تصدر حتى خطابًا تعبويًا بحجم الخطر الذي كانت تتعرض له "الشقيقة الكبرى".


فهل تغيّر شيء في العقل الحوثي؟



---


ثانيًا: تفكيك احتمالات الموقف الحوثي


1. فرضية العجز أو الضربات المسبقة:


قد يُفسّر هذا الغياب بأنه ناتج عن استنزاف قدرات الحوثي الصاروخية والمسيّرة، إما بسبب ضربات استباقية دقيقة، أو بفعل تآكل ترسانة الجماعة نتيجة سنوات الحرب.


لكن هذه الفرضية تسقط أمام المعطيات الميدانية: فالحوثي ما يزال ينفذ هجمات منتظمة على السفن، ويهدد الملاحة الدولية، ويستعرض طائراته وصواريخه في العروض العسكرية. وبالتالي، القدرة موجودة، لكن الإرادة السياسية لاستخدامها غابت.


2. صفقة مع واشنطن — تحييد مقابل مكاسب:


تلوح في الأفق فرضية أكثر إثارة: هل عقد الحوثي صفقة مع واشنطن لتجنب التصعيد ضد إسرائيل مقابل تخفيف الضغوط؟


هذه الفرضية تعززها عدة مؤشرات:


تراجع الخطاب الأمريكي المتشدد تجاه الحوثي مؤخرًا.


تباطؤ خطوات إعادة تصنيف الجماعة كـ"منظمة إرهابية".


تسريبات عن قنوات خلفية للاتصال، عبر عمان أو جهات إقليمية.


قبول غربي ضمني ببقاء الحوثي كأمر واقع في شمال اليمن، إذا ضمن "ضبط السلوك".



إذا ثبتت صحة هذا السيناريو، فنحن إزاء جماعة تعلمت من أدوات إيران، لكنها بدأت تتعلم من أدوات الغرب أيضًا. تساوم، وتناور، وتبيع الأدوار إذا لزم الأمر، وتحترف إدارة الصمت إذا كان الصراخ مكلفًا.


3. الحوثي — من حضن إيران إلى حضن المصالح:


التساؤل الأشد وقعًا: هل غادر الحوثي سرير طهران إلى فراش واشنطن؟


الإجابة المعقولة: ليس بعد، لكنه في الطريق. فالجماعة تُظهر اليوم انفصالاً تدريجيًا عن العقيدة الإيرانية في التورط المتزامن، وتميل نحو تموضع ذاتي يعزز نفوذها كفاعل محلي يمتلك علاقاته الخاصة مع اللاعبين الكبار. وهي بذلك تحاكي سلوك "حزب الله السياسي" لا "حزب الله المقاوم"، حيث تصبح الجماعة ذراعًا مشروطة، لا مطلقة الولاء.



---


ثالثًا: المعركة الأهم من تل أبيب — صعدة إلى مأرب


التحليل الأكثر ترجيحًا يرتبط بأولوية الميدان اليمني. فالجماعة تدرك أن معركتها الوجودية المقبلة ليست مع تل أبيب، بل مع عدن ومأرب والشرعية اليمنية.

التحركات السياسية والعسكرية الأخيرة في عدن، وتصريحات الحكومة الشرعية، ومؤشرات عودة المواجهة الشاملة، كلها دفعت الحوثي إلى تجميد تدخله الإقليمي حفاظًا على قوته المحلية.


وهكذا، فإن امتناع الحوثي عن نصرة إيران لم يكن خيانة للتحالف، بل وفاءً لمصلحة يعتبرها مقدسة: بقاء الجماعة على رأس السلطة في صنعاء.


لقد تصرف الحوثي كقائد دولة لا كعنصر في محور. فضل التحفظ على المغامرة، والاستعداد لحرب قادمة على أرضه، بدلاً من خوض حرب لحساب غيره على أرض الآخرين.



---


رابعًا: التحول العميق في عقيدة الحوثي


موقف الحوثي من الحرب الإيرانية-الإسرائيلية ليس تفصيلاً عابرًا في سجل الأحداث، بل علامة فارقة على تحول استراتيجي عميق في طبيعة الجماعة وسلوكها. فقد انتقلت الجماعة من طور "الوكالة العقائدية" إلى طور "البراغماتية المصلحية"، ومن لعب دور الذراع إلى احتراف لعب دور الفاعل المحسوب الذي يحدد متى يشارك ومتى يصمت ومتى يساوم.


لم تعد الجماعة تتحرك بوحي من شعارات "الموت لأمريكا" و"نصرة المستضعفين"، بل بوحي من موازين الربح والخسارة، والمصلحة والنجاة. وهي بذلك، تعلن ـــ وإن بصمت ـــ أنها لم تعد تأتمر بتوجيهات الحرس الثوري، وإنما تُدير أجندتها الخاصة في ضوء مصلحتها في البقاء والتمدد.


وهكذا يتكشف المشهد على حقيقة صارخة:

أن الحوثي لم يعد ذراعًا إيرانية مطلقة، ولا مقاومًا ملتزمًا، بل لاعبًا سياسيًا عنيدًا، يتقن لعبة المساومة، ويختار معاركه بعناية، ويحتفظ بقوته لمعركته الكبرى في الداخل اليمني.


إنه الحوثي الجديد — نسخة هجينة من الوكالة والبراغماتية، من التبعية والتمرد، من الشعارات الثورية والمصالح السلطوية.

وهو بذلك، ليس مجرد خطر إقليمي، بل مشروع سلطوي متكامل، يحتاج إلى مواجهة لا تكتفي بكشف ارتباطاته، بل تُدرك تحوّلاته، وتبني استراتيجيتها على ما أصبح عليه، لا على ما كان يزعم أنه عليه.



---

✍️ عبدالعزيز الحمزة

السبت ٢٨ يونيو ٢٠٢٥م