حين تعصف رياح التمزق بجسد الدولة، وتتلاطم أمواج الفوضى على صخور السيادة المتصدعة، لا يطفو على السطح سوى من امتلك زمام الرؤية وصلابة التقدير. هناك، في قلب العاصفة، تبرز السفينة بقيادة قبطان نأمل أن يكون استثنائي، حيث يمسك يده بالدفة بثبات الملاحين الكبار، صامتًا كمن يُدرك أن النجاة لا تصنعها الضوضاء، إنما حكمة التوجيه وصلابة القرار.
خمسون يومًا تمضي في تقويم الزمن كأنها لحظة عابرة، لكنها في ميزان الدولة مخاضٌ ثقيل بين ركامين: ماضٍ متآكل تحت ثقل الإهمال والتراكمات، ومستقبل يُبنى على مهل، تُرصّ فيه لبنات الكرامة الوطنية فوق أسسٍ من الاستقرار المؤسسي، في محاولة لاستعادة ما تقوّض من معنى الدولة ووظيفتها.
هنا في صميم العتمة، يخوض رئيس الوزراء سالم بن بريك معركة ضبط المالية العامة بسيناريو صامت، حيث يختزل الظل جوهر المعركة، ملحمته المصيرية لا بطلقات خطاب تزيف الواقع، ولكن بصمت البنائين الذين يقيمون الحضارة بأنامل لا ترتعش، يركز على ضبط الموارد، وحماية الإيرادات، وتوجيه الإنفاق نحو الأولويات الوطنية. صمته الدؤوب هو دليل إدراكه لأهمية العمل، وابتعاده عن الخطابات التجميلية، يعكس فهمه لتعب الشعب، الذي يعاني من المنابر المكتظة بالحديث، ويفتقد للنتائج الملموسة.
انطلاقًا من خبرة متراكمة في الجمارك والموانئ والمالية، شرع بن بريك في بلورة مسار يستهدف إعادة ضبط منظومة الإيرادات، من خلال إغلاق منافذ التهرّب وتقليص نطاق النفوذ غير المؤسسي على الموارد العامة. وعلى الرغم من مؤشرات التحسن الأولية، تظل التحديات قائمة في مواجهة شبكة مصالح معقّدة، تتقاطع فيها قوى الداخل المستنزف مع حسابات الخارج المتحفظ.
حين تغلق الأبواب أمامه، أو تنشأ محاصصات لإرباك جهوده، يمتلك الجرأة للكشف عن الحقيقة أمام الرأي العام، مكاشفا عن الخلل ومطالبا بإرادة سياسية تسانده، فمن يحترم تاريخه سيحرص على دعمه، ومن يعي حجم المهمة سيقف إلى جانبه.
إن العجز المالي الراهن لم يعد يحتمل مزيدًا من الحلول المؤقتة أو التدابير الترقيعية؛ فالموانئ لا تزال رهينة شبكات نفوذ متداخلة، والعملة الوطنية تتعرض لضغوط متصاعدة نتيجة تراكمات السياسات السابقة وتناقضاتها، فيما تتوزع الإيرادات على نحو يفقدها الإطار المؤسسي الناظم. في هذا السياق المعقد، يغدو الدور المنوط بقيادة الحكومة دورًا محوريًا في إعادة هيكلة الإنفاق العام، وصياغة سياسة مالية موحدة تعيد التوازن إلى الدورة الاقتصادية وتؤسس لاستقرار مستدام تتكامل فيه أدوات الدولة مع مقتضيات السيادة والتنمية.
الخطر الحقيقي ليس في احتمال الفشل، إنما في أن يفرض الفشل من داخل الحكومة نفسها. تقييد الإرادة وتفريغ المؤسسات من محتواها يقود إلى إحباط دائم يستنزف أي جهد للمعالجة. نجاح هذا المشروع يرتبط بقرار سيادي جريء يكسر شبكة التعطيل ويمنح مؤسسات الدولة الحماية اللازمة.
الخطر الجوهري لا يكمن في احتمالية التعثّر بحد ذاته، وإنما في أن يُفرض الفشل من داخل البنية الحكومية عبر تكبيل الإرادة وتفريغ المؤسسات من مضمونها الوظيفي. فحين تُشل أدوات الدولة، تتحوّل المعالجات إلى طاقة مهدورة، ويغدو الإحباط جزءًا من المنظومة لا عارضًا طارئًا. إن نجاح هذا المسار التنفيذي يظل رهينًا بقرار سيادي شجاع، يواجه شبكة التعطيل ويكسر منطق الإعاقة، ويعيد إلى مؤسسات الدولة حصانتها وقدرتها على أداء وظائفها في بيئة محكومة بالشرعية والمساءلة لا بالتجاذب والإفشال.