رؤية تحليلية استراتيجية في لحظة إقليمية مفصلية
تمهيد: حين لا يكون الحياد خيارًا
في عمق التفاعل الجيوسياسي للشرق الأوسط، تشهد المنطقة تصعيدًا غير مسبوق في المواجهة بين إيران وإسرائيل. لا يبدو أن هذه الحرب – المفتوحة أو الموجّهة – مجرد صراع عسكري تقليدي، بل هي امتداد لتنافس استراتيجي بين مشروعين متصارعين على زعامة الإقليم، يُداران بإشراف دولي، ويُستنزف في سياقهما العمق العربي والإسلامي، وتتصارع فيها الرؤى، وتُعاد فيها صياغة التوازنات، وتُختبر فيها حدود النار والخرائط والدم.
وفي هذا الصراع المتفجّر، لا تبدو الكتلة الإسلامية السنية طرفًا في المعركة، لكنها حتمًا في قلب النتيجة. إنها الكتلة التي يدور على أرضها الصراع، وباسمها تُدار التسويات، ومن جسدها يُعاد تشكيل الشرق الأوسط الجديد.
هنا، لا يكفي الحياد، ولا ينفع الانتظار، بل لا بد من رؤية شاملة تقرأ الماضي، وتفكك الحاضر، وتستشرف المستقبل، لتعيد للأمة موقعها كفاعل لا مفعول به.
وفي حين ينشغل المحللون بمآلات هذا الصراع على الطرفين المباشرين، تغيب عن كثير من التقديرات مسألة مركزية:
أين تقف الكتلة العربية والإسلامية من هذا الصراع؟
وهل تمتلك دول الإسلام السني رؤية فاعلة تحوّلها من موقع التلقي إلى موقع المبادرة؟
هذا التحليل يسعى لتفكيك المشهد، وتحليل مآلاته، وصياغة رؤية استراتيجية مستقبلية تحاكي تحديات الأمة، وتستنهض قدرتها على الفعل في زمن التشظي والانكشاف.
---
أولًا: مشهد الصراع – مواجهة بين مشروعين فوق الدولة
الحرب المفتوحة اليوم ليست سوى قمة جبل الجليد لصراع أعمق بين مشروعين متضادين يتنازعان المشرق الإسلامي:
■ إيران: مشروع تفكيك المشرق لبناء "هلال طائفي"
ترى نفسها مركزًا إسلاميًا بديلاً، تحت مسمى "أم القرى"، ويرى في التشيع هوية الأمة، وفي "ولاية الفقيه" مرجعية العالم الإسلامي.وتتعامل مع السنة كخصم عقائدي وجودي.
أدواتها: الميليشيات، التمدد الديموغرافي، خطاب المظلومية، وتحالف الأقليات.
نتائج مشروعها في العقدين الأخيرين:
العراق: تفكيك الدولة، اجتثاث السنة، حكم ميليشياوي بغطاء دستوري.
سوريا: قتل وتدمير وزرع فتنة طائفية عميقة .
لبنان: اختطاف القرار الوطني عبر حزب الله، وتطويع الدولة.
اليمن: انقلاب حوثي وتدمير مؤسسات الدولة وبنية المجتمع السني.
■ إسرائيل: مشروع ضبط المجال العربي بالأمن والاستيطان
ترى في تفكك الجغرافيا السنية فرصة تاريخية لتثبيت وجودها كدولة قومية يهودية وظيفية.
أدواتها: الردع العسكري، الابتزاز الأمني، اختراق الأنظمة، ترويض التطبيع.
نتائج مشروعها المعاصرة:
فلسطين: تهويد متسارع، إبادة في غزة، تفكيك النسيج الاجتماعي، وخنق المقاومة.
المنطقة العربية: تطبيع أمني لا سياسي فقط، اختراق النخب، وتحويل أنظمة إلى أدوات ضبط داخلية.
الإقليم: عمليات اغتيال وقصف تمتد من بيروت إلى طهران، دون رادع دولي.
كلا المشروعين لا يتواجهان بقدر ما يتقاطعان على حساب الكتلة العربية والإسلامية، بوصفها "الخصم المشترك الذي لا مشروع له".
—-
ثانيًا: الغرب وإيران... من فزّاعة الماضي إلى خصومة الحاضر
◾ في السياق التاريخي: إيران كأداة وظيفية بيد الغرب
لسنوات طويلة، لم تكن إيران خصمًا للغرب بقدر ما كانت فزّاعة مُدارة بعناية.
بعد غزو العراق، سلّمت واشنطن بغداد لإيران كجائزة ترضية، لتبقى الكتلة السنية في حالة ضعف.
في سوريا، غضّ الغرب الطرف عن تدخل طهران، بينما حوصرت الفصائل السنية المقاومة.
في لبنان، تم التعامل مع حزب الله كأمر واقع، وأُدرجت المقاومة في قوائم الإرهاب.
وفي اليمن، تُرك الحوثي ينهش الدولة، بينما كانت العواصم الغربية تساوي بين الضحية والجلاد.
الهدف: تفكيك الجغرافيا السنية، وتقديم إيران كأداة ضبط للمنطقة، دون السماح لها بامتلاك الاستقلال الكامل.
◾في الواقع المعاصر: من الاحتواء إلى المواجهة:
لكن هذا "الاحتواء" تحوّل إلى تصادم حاد، بعد أن تحولت إيران من شريك وظيفي إلى فاعل ميداني متمرد على هندسة الغرب.
توسّعها خارج السيطرة.
مشروعها النووي اقترب من حافة الخطر.
ودخلت في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، لا سيما في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن.
الغرب اليوم يواجه طهران لا لأنه تغيّر، بل لأن أداته القديمة خرجت عن النص، وصارت تهدد المخرج نفسه
—---
ثالثًا: السيناريوهات الثلاثة المحتملة لمصير الصراع
١. سيناريو انتصار إيران: تمكين مشروع التفكيك و كابوس التمكين الطائفي
شرعنة التوسع الصفوي في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
فرض الهلال الشيعي بقوة السلاح والمذهب و خنق الوجود السني عبر التهجير والتصفية والاحتواء.
تهديد مباشر للحرمين، وانفجار الصراعات الطائفية في الخليج ، وتقويض الدول العربية من الداخل.
نموذج "الحشد والحوثي" يتمدد سياسيًا وأمنيًا في بلدان عربية إضافية.
٢. سيناريو انتصار إسرائيل: تمكين القبضة الصهيونية الشاملة.
تصفية القضية الفلسطينية بمباركة عربية،وتحويلها إلى ملف أمني داخلي.
تسويق إسرائيل كضامن للأمن العربي، واختراق سيادي للدول السنية بحجة "التعاون الأمني".
تدجين الأنظمة وتفكيك الهويات القومية والإسلامية، وتهميش أي مشروع إسلامي جامع، وربط مصير الأنظمة بالتبعية.
تحوّل المنطقة إلى هامش لحضارة المركز الإسرائيلي الغربي، و تحوّل الخليج إلى قواعد مراقبة وسوق أمنية إسرائيلية.
3. سيناريو الاستنزاف المتبادل: بقاء التوازن السلبي دون حسم ولا هيمنة.
تآكل متوازن لقدرات إيران وإسرائيل.
تأجيل مشاريع التوسع.
فتح نافذة لترميم الصف السني وإعادة تموضعه في المشهد.
لكنه سيناريو مؤقت وهش، إن لم يُبْنَ عليه مشروعٌ مستقل.
—--
رابعًا: خطر الصفقة – تسوية نووية على حساب السنة
ثمة سيناريو مقلق: أن تنتهي الحرب إلى صفقة كبرى بين الغرب وإيران، تحت عنوان "نووي مقابل نفوذ"، تتضمن:
اتفاق نووي جديد ينهي الحرب ويُعيد إيران إلى المجتمع الدولي.
تعهد طهران بوقف دعم حماس وحزب الله، والانسحاب نسبي من مناطق التوتر.
إبقاؤها كقوة إقليمية تُدير بعض ملفات الإقليم بغطاء دولي.
غضّ غربي للطرف عن تمددها في العراق واليمن، و استعادة سوريا، وربما لاحقًا السيطرة على الأردن والبحرين والكويت والسعودية.
■ النتائج المتوقعة:
خنق المقاومة الفلسطينية سياسيًا وماليًا.
تثبيت الهلال الشيعي سياسيًا، وتحوّل إيران إلى "شريك ناعم" في إدارة الإقليم ضمن توازن مرسوم.
سقوط ما تبقى من توازن طائفي في المنطقة، وتحول الأغلبية السنية إلى جغرافيا مفرغة من السيادة، وإخراجهم من معادلة القوة إلى هوامش التسويات.
خامسًا: لماذا لا ينبغي أن تُهزم إيران؟
رغم كل الجرائم التي ارتكبتها إيران بحق السنة، فإن سقوطها الكامل على يد المشروع الصهيوني – الغربي يمثل كارثة وجودية للكتلة السنية:
■ لأن إسرائيل ستنفرد بالإقليم بلا رادع.
■ لأن فلسطين ستُخنق بلا ظهير، ودعم ايران لفصائل المقاومة الحقيقية حقيقي.
■ لأن الخليج سيتحوّل إلى منطقة أمنية تحت مظلة تل أبيب،وبشكل علني وتأييد غربي.
■ لأن الأمة ستفقد آخر عناصر التوازن الهشّ.
وهكذا، فإن إبقاء إيران في حالة صراع، دون نصر أو سقوط، هو خيار استراتيجي واقعي للكتلة السنية، شريطة أن:لا تُسحق إيران،ولا تنتصر،بل تستمرتُستنزف، ويُستثمر الصراع لبناء المشروع السني البديل
---
خامسًا: الرؤية الاستراتيجية للكتلة السنية – من المفعول به إلى الفاعل الجيوسياسي
لا مخرج من هذا المأزق إلا عبر تحول استراتيجي في موقف الدول السنية، يقوم على المبادئ الآتية:
١. تقارب الدول السنية تحت مظلة تنسيقية سيادية:
تشكيل "مجلس أمني واقتصادي وسياسي" يضم: مصر، تركيا، السعودية، باكستان، إندونيسيا.
التنسيق في ملفات الأمن الإقليمي، الطاقة، السلاح، والدفاع السيبراني.
إنتاج خطاب جامع يُعيد الاعتبار للهوية الاسلامية كهوية حضارية جامعة.
٢. التحرر من الابتزاز الغربي وتنوع الشراكات:
تعزيز العلاقة مع قوى دولية ك(روسيا، الصين، آسيا الوسطى، ماليزيا).
بناء اكتفاء نسبي في الغذاء والسلاح والدواء.
توظيف الثروات الإسلامية لخدمة مشروع ذاتي لا تابع.
٣. احتضان المقاومة وتحريرها من الارتهان
تقديم بدائل عربية و اسلامية لدعم القضية الفلسطينية بدل ارتهانها لإيران.
إعادة تعريف "المقاومة" ضمن مشروع إسلامي جامع، لا بوصفها ذراعًا لأجندة طائفية.
4. التموضع في الصراع كطرف ضامن للتوازن:
ليس حيادًا سلبيًا، بل إدارة ذكية للصراع تضمن استنزاف الطرفين، وتمنع الحسم لصالح أي مشروع يُقصي الكتلة الإسلامية السنية.
---
وفي الاخير: لا مفر من المشروع!
الأمة بين فكي الذئب... فهل تنهض؟
بين المشروع الصفوي الذي يحرق الجسد الاسلامي من داخله ، والمشروع الصهيوني الذي يُبيد الهوية ويجتث الكيان الاسلامي، تقف الأمة الإسلامية السنية اليوم على مفترق استراتيجي لم تشهده منذ قرن.
فإما أن تُعيد تعريف ذاتها، وترتقي إلى مستوى الخطر،
وإما أن تُحرق بين الذئب والذئب... في صمت العالم، وعجز الذات العالم يتغير، والمشهد يعاد ترسيمه.
والسؤال ليس: من ينتصر بين طهران وتل أبيب؟
بل: هل تبقى الكتلة السنية خارج المعادلة، أم تُعيد بناء ذاتها كفاعل مستقل؟
الخيار ليس بين شرين، بل بين الاستسلام والتشكّل.
والمعركة القادمة لن تُخاض فقط بالبندقية، بل بالرؤية، والسياسة، والتحالف، والهوية.
آن للأمة أن تبني مشروعها، قبل أن تُستكمل خرائط سقوطها.
ولن يكون النهوض بانتظار النصر من هذا أو ذاك، بل بإدراك أن لا أحد سيحمل رايتنا إن لم نحملها بأنفسنا
إما أن تنهض الأمة بمشروع جامع،
وإما أن تُكتب من جديد بخط أعدائها.
والله الموفق