في قرية نائية، محاصرة بالجبل من جهة، وبالنسيان من جميع الجهات، حيث لا تصل الطرقات ولا الرحمة، كانت الحياة تمضي بقسوتها الباردة على أجساد صغيرة لا ذنب لها سوى أنها ولدت في الفقر، وماتت في الطفولة… دون أن تعيشها.
هناك، بين الحقول اليابسة والآبار الجافة، بين جدران الطين وأكواخ الصفيح، وُلد حمادي؛ لا أحد استقبل صرخته الأولى، ولا أحد احتفل بقدومه، جاء إلى العالم يتيمًا، عاريًا من كل شيء... حتى من الحنان.
لم يعرف حمادي شكل الأب، ولا لمس يدًا تُربت على رأسه، لم يكن له أم تحمله على كتفيها وتغني له، بل حملته الحياة على كتفيها وتركته يمشي حافيًا بين الصخور.
منذ نعومة أظفاره، كان يخرج مع خيوط الفجر، يطوف بين الشعاب، يبحث عن لقمة يتيمة أو عمل لا يليق حتى بالرجال.
يتساقط المطر، فيرتجف جسده الصغير، تلسعه الشمس، فيتشقق جلده، يمر العيد، فيرتدي قميصه الممزق للمرة العشرين، ويجلس عند أطراف الوادي يبكي بصمت، لا حسدًا لأطفال القرية، بل قهرًا من الحياة.
في كل مناسبة، كان حمادي يطالع وجوه الصغار، يراهم يضحكون، يركضون بثياب جديدة، يشترى لهم الحلوى، وتلتقط لهم الصور.
أما هو، فكان يحمل شقاءه على ظهره النحيل، يقف عند الحافة، ينظر إلى السماء ويسأل: هل أنا غير مرئي؟ هل أنا طفل فقير؟.
كان يعود إلى منزله الخالي، لا يجد فيه سوى الصمت، وشيئا من التراب، وحائط مائل كأنه يشاركه الانكسار، لم يكن هناك طعام، ولا نور، ولا صوت… فقط صوت أنفاسه المتقطعة وهو ينام على حجر بارد، يحتضن حزنه.
في صباح خانق، خرج حمادي إلى الوادي، جلس على صخرة كما يفعل كل يوم، لا للراحة، بل لأنه لا مكان آخر له.
نظر إلى السماء الخالية، ثم إلى الأرض القاحلة، ثم أغمض عينيه وقال:يا رب، أنا ما عدت أحتمل.
وفي لحظة لم يتوقعها، توقفت سيارة أمامه؛ نزل منها شيخ من وجهاء القرية، رجل لم يعرف حمادي عنه شيئًا.
قال له:أنت… تعال.
ركض حمادي، لا لأنه فهم، بل لأنه تعود أن يركض خلف أي شيء.
قال له الشيخ:رأيتك في المنام تصرخ: لماذا هذا الظلم؟ استيقظت وقررت أن أبحث عنك… وها أنت هنا.
لم يتمالك حمادي نفسه. بكى كما لم يبكي من قبل؛ بكى جوعه، بكى خوفه، بكى عمره الذي مضى دون حضن، دون رغيف، دون معنى.
أخذ الشيخ حمادي إلى منزله، ألبسه، أطعمه، جعله فردًا من أسرته ،عمل حمادي في كل شيء، في المزرعة، في المتجر، في الرعي، لم يشتكي، لم يتذمر ،كان يحمل في قلبه امتنانًا يُربك الكلمات.
وذات يوم، جاءه معلم وقال: "افتتحنا مدرسة… هل تريد أن تتعلم؟ كأن الله أرسل له نداء من السماء. قال:نعم، أريد ،دخل المدرسة، وتفوق ،صار حديث المعلمين، وصار اسمه يقال بكل فخر.
كبر حمادي، ومعه كبرت قصته. بدعم الشيخ، انتقل إلى المدينة، أكمل دراسته، ونجح، وتخرج.
عاد إلى قريته وهو يحمل شهادة، زوجة، وأطفالًا، وكرامة.
زار الوادي، وقف على ذات الصخرة، لم يجد الطفل الذي كان…بل وجد رجلاً بوجه لا يزال يحمل ندوب الماضي، لكنه في عينيه نصر لا يُنسى.
بكى…نعم، بكى، لكن دموعه هذه المرة كانت دموع من انتصر على الموت جوعا، وعلى الحياة قهرا.