هناك حقائق لابد من التأكيد عليها والتوقف عندها، وبعد أكثر من نصف قرن من الإخفاقات التي عصفت بعموم الدول والجمهوريات الوطنية، والتي تأكد جميعها على أن الخلل لم يكن في السلوك السياسي فحسب، وبل وفي التنظير الفكري للسلوك السياسي.
وبخاصة أن أغلب المقولات الثورية التي آمنا بها ورفعنا شعاراتها في بلداننا كأنظمة جمهورية أثبتت فشلها، وفي حين أن دول الجوار الملكية في الخليج حقنت دماء مواطنيها، ونجحت في الحفاظ على أمن واستقرار شعوبها، وجنبتهم ويلات الإنقلابات والصراعات.
وبينما لاتزال الإنقلابات والصراعات تقتلنا، وتزيدنا فقرآ وتراجعا، ولازلنا متمسكين بمجموع تجارب ثورية وجمهورية أثبتت بأنها لم تعد صالحة للاستهلاك وإعادة التدوير السياسي المتهالك في شتى خياراته السياسية والوطنية والحزبية.
ومع كل الحقائق والوقائع الحديثة منها والمعاصرة فإننا نصر على إعادة التجربة تلو التجربة، ونعمق من حجم الإخفاق والفشل،ولا بدائل سياسية نملكها لتجنب الوقوع في ذات النتائج الوخيمة، والتي حصدنا مراراتها في كل المراحل المعاصرة والحديثة.
وواحدة من أجلى وأنصع الحقائق في دولنا الجمهورية هي أننا فشلنا في الوصول للدولة المدنية الحديثة مجتمعين، وهو الاستحقاق الذي عادة ما يكون ليس أكثر من شعار فضفاض تتدثر به قوى المعارضة، والتي لطالما كانت الوجه الثاني للحاكم والسلطة في جمهورياتنا.
وحتى بعد أن قامت ثورات(الربيع العربي)لم تستطع قوى المعارضة الواصلة لسدة الحكم والسلطة ومن خلال سلوكها السياسي أن تصل لتحقيق استحقاق الدولة المدنية، وإن لم يدم حكمها طويلاً بفعل إنقلاب(الدولة العميقة)في كل جمهوريات الربيع العربي.
وهذا إذا ماوضعنا بحسباننا نتائج ومتغيرات(التدخلات الخارجية)،والتي أسهمت في إضعاف كل المحاولات السياسية الوطنية لبناء المداميك الأولى للدولة المدنية، والتي وإن كانت كاستحقاق لاتزال بعيدة كل البعد من أن تصبح حقيقة في واقع نظمنا الثورية.
وأثبتت التجارب أنه ليس صحيحا تماماً أن النظام السياسي الملكي أو الأميري لا يصلح أن يكون حامل للدولة المدنية، وليس فقط على نطاق الجوار القريب منا،وبل على النطاق البعيد منا، وليس هناك أدل على ذلك أن نستشهد بالنظامين الكويتي القريب والبريطاني البعيد.
وكلاهما دولتان ملكيتان، ولكن أساسهما برلماني تعددي، وفيهما أحدث نموذجين للدولة المدنية، وبل ومن أكثر الدول نظاماً وسيادة للقانون، وفيهما الكثير من التحديث السياسي والتشريعي والتنفيذي للسلطات والمؤسسات، والأهم أنهما يستوعبان التعددية الحزبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
ومابين استحقاق الدولة المدنية وبين المقولات الثورية بون شاسع من التحديات والصعوبات،وأهمها الوصول لتغيير حقيقي لدى النخب السياسية، والتي لم تعيد النظر في تفكيرها السياسي،ولم تحاول أن تتخطى جمودها الإيدلوجي والفكري، ولكي تحدث تغييرآ حقيقيآ في واقعها المنفصل تماماً عن تفكيرها.؟!