آخر تحديث :الإثنين-09 يونيو 2025-07:14م

في عدن.. دولة الامتيازات لا دولة القانون

السبت - 26 أبريل 2025 - الساعة 07:35 م
محمد علي رشيد النعماني

بقلم: محمد علي رشيد النعماني
- ارشيف الكاتب


حينما يتطلع المواطن في العاصمة عدن إلى دولةٍ تحمي حقوقه وتصون كرامته، يصطدم بواقع مرير تُهيمن عليه الامتيازات الخاصة، لا القوانين العامة.

في مدينة كان يُفترض أن تكون عنواناً لبناء المؤسسات واستعادة الدولة، تتكشف المفارقة المؤلمة: مكاتب حكومية تتزين بمظاهر الرفاه، بينما تتوارى العدالة خلف أبواب الرشاوى والمصالح الضيقة.

ما إن تخطو قدماك عتبة إحدى الوزارات أو المصالح الحكومية في مدينة عدن، عاصمة الجنوب، حتى يرتسم أمامك مشهدٌ لافت: مكاتب فارهة، سيارات حديثة مصطفّة، وجوه مسترخية توحي بالطمأنينة، ومسؤولون – شماليون وجنوبيون على السواء – يظهرون في كامل زهوهم وكأنهم يعيشون في دولة مستقرة، مزدهرة، يحكمها القانون.

لكن ما تلبث هذه الصورة أن تتلاشى عند أول احتكاك فعلي بالمؤسسة. فما إن تحمل بين يديك معاملة رسمية حتى تبدأ رحلة التيه في دهاليز البيروقراطية، حيث تُقابَل بعبارات مبطّنة، وإشارات مواربة، توحي بأنَّ "السير الطبيعي" للمعاملة لن يتم إلا بثمن غير معلن.

هنا، يجد المواطن البسيط نفسه في مواجهة جدارٍ سميك من العراقيل والمماطلات، يُمنع من تجاوزه ما لم يقدّم رشوة، تتفاوت قيمتها حسب نوع المعاملة، و"مقام" الموظف. توثق شكاوى عديدة من المواطنين أن الرشاوى في بعض المكاتب لم تعد تقتصر على الريال اليمني، بل باتت تُطلب بالعملة الصعبة، مقابل تسريع أو حتى بدء المعاملات الإدارية

في هذا الواقع المنكسر، تحوّلت الخدمة العامة إلى إمتياز خاص لمن يدفع، بينما يُقصى الفقير والمظلوم ويُحرَم من حقه الطبيعي في الحصول على خدمة تحكمها قوانين الدولة لا نزوات الموظفين.

الأسوأ من ذلك، أن هذه الممارسات لم تعد تُثير استغراب أحد، بل باتت تُعامل كأمر اعتيادي، يدخل في إطار "التساهل المجتمعي مع الفساد". ولعلّ المفارقة الموجعة، أن كثيراً من المسؤولين – الذين يُفترض أنهم ركيزة بناء الدولة – أصبحوا من أبرز المنتفعين من هذا الخلل، ما يجعلهم في موقع مقاومة لأي محاولة إصلاح حقيقي قد تعيد الهيبة إلى مؤسسات الدولة.

وفي ظل هذا الإنحدار، يغيب الحديث الجاد عن الإصلاح والمحاسبة، وتتراجع سلطة الرقابة، وتُستبدل المصلحة العامة بمصالح خاصة متشابكة، تتغذى على ضعف الدولة وهشاشة النظام الإداري، فيما يُصبح الصمت عن الفساد، خياراً ضمنياً مناهضاً لأي مشروع وطني قائم على النزاهة والعدالة.

إن استمرار هذا الوضع لا يعني فقط تعميق معاناة المواطن، بل يهدد مستقبل البلاد برمّته، سياسياً واقتصادياً ويزرع في الوعي الجمعي شعوراً قاتلاً بالعجز: أن لا دولة قادمة، ولا قانون يُرتجى، وأنّ من أوكل إليهم حماية الحقوق قد صاروا جزءاً أصيلاً من منظومة الإمتيازات الفاسدة.

ورغم خفوت صوت المواطن المقهور، إلا أنه يظل الصوت الأصدق. صوت لا يطالب بأكثر من حقوق بسيطة دولة تحترم إنسانيته، ومؤسسة تنجز معاملته، وموظفٍ يؤدي عمله بإخلاص… لا بثمن .