بينما كنتُ أصعد (درج) المنزل عائدًا من المسجد، وإذا بصوت طفلتي التي لم تتجاوز ربيعها الخامس تردد: "الشعب يريد إسقاط النظام".
تعجبت من كلماتها التي ترددها وهي لا تعي ولا تفقه معناها، فعادت بي الذكريات إلى ما قبل 14 عامًا، حينما كانت هذه الشعارات وغيرها تتردد في ساحات التغيير وثورات (الدمار العربي) التي قضت على معالم الدولة، وحل محلها الخراب والضياع والدمار في بعض البلدان.
احتضنت طفلتي فقلت لها: أتدرين ماذا حلّ بنا من بعد هذه الكلمات يا طفلتي؟
لم يسقط النظام فقط، ولم يتغير رأس الفساد فيه أو معالمه، بل سقطت الدولة والنظام والقانون والجغرافيا، وسقط البلد بأجمعه.
شعارات يا طفلتي كانت كفيلة بطمس هوية البلد والقضاء تمامًا على ملامحه ومكانته وقيمته وكرامة شعبه.
سقط النظام وسقط الأمن وسقط الجيش، وانهارت العملة وتدهور الريال، فحل الخراب والدمار والشتات والضياع، وساد القتل والترويع والفوضى والعبثية، وتسلطت الميليشيات والكيانات الخارجة عن النظام والقانون، وبات أنصاف الرجال هم من يحكمون البلد ويعبثون بمصالح الناس وحياتهم.
حينما رددنا قديمًا هذه الشعارات، لم نكن نعي أن ما خلفها خراب وجوع وفقر وتنكيل ونزوح، وحربٌ طويلة الأمد محلية وعربية ودولية أتت على كل شيء.
لم نكن نعلم أن هناك كرامًا ستذلهم الحرب وتشرّدهم، وبطونًا ستصرخ من الجوع، وعفيفات سيفترشن الطرقات، وأعزة قوم سيموتون كمدًا وقهرًا ووجعًا وهم يبحثون عن (كسرة) خبز يابس.
يا طفلتي، لم تأتِ هذه الكلمة إلا بحرب يمنية حصدت مئات الآلاف من البشر، وشرّدت مثلهم، ودمّرت مساكنهم، وساندتها حرب عربية وأمريكية أخرى أكملت ما بدأته هذه الحرب، وهي في طريقها لأن تخفي ملامح وكيان الدولة وبنيتها التحتية.
هذه الكلمة لم تشفع إلا لثلة قليلة، ارتقت بهم إلى العلياء، في حين نكّلت بالآخرين أيّما تنكيل. قبلها، لم نكن نسمع عمن يموت جوعًا وكمدًا وحسرة، قبلها لم نشاهد عفيفات يفترشن الأرض ويتسولن المارة، قبلها لم تظهر التكتلات والكيانات، قبلها لم تسقط هيبة رجال الأمن والمرور.
قبلها وقبلها وقبلها... وها نحن اليوم نبكي على أطلال زمان الوصل بالأندلس.