د. نورية الأصبحي
في زمنِ تَطَايَرَتْ فيه الألقابُ كأوراقِ الخريف، وَغَابَتِ السَّمَاتُ بَيْنَ رِكَامِ المَظَاهِرِ، يَعْبُرُ دَرْبَكَ شَخْصٌ يُعيدُ للقِيَادَةِ رُوحَهَا، فَلَا يَكْتَفِي بِأَنْ يُنْقَشَ اسْمُهُ فِي سِجِلِّ المَنَاصِبِ، بَلْ يَحْفُرُ وُجُودَهُ فِي صُخُورِ الذَّاكِرَةِ الجَمْعِيَّةِ.
إِنَّهُ اللِّوَاءُ عَبْدُهُ حُسَيْن التُّرْبِ، وَزِيرُ الدَّاخِلِيَّةِ الأَسْبَقِ – اسْمًا تَرَدَّدَ فِي الْأَسْمَاعِ كَنَغْمَةِ فَجْرٍ مُبَشِّرٍ، وَلَكِنَّ لِقَاءَهُ وَالْحَدِيثَ مَعَهُ يَعْبُرُ مِنْ سَمَاءِ الصَّوْتِ إِلَى فَضَاءِ الرُّوحِ.
رَجُلٌ تَعْلُو هِمَّتُهُ عَنْ ضَجِيجِ المَنْصِبِ، وَتَسْبِقُ قَامَتُهُ الْأَخْلَاقِيَّةُ بُرُوتُوكُولَاتِ الْجُدُرَانِ. عَقْلٌ يَحْمِلُ ثَقَافَةَ وَطَنٍ بِأَسْرِهِ، وَشَجَاعَةٌ تَنْبَضُ بِحِكْمَةِ الْأَجْدَادِ، وَعُمْقٌ يَنْسَابُ كَالنَّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.
لَيْسَ مَسْؤُولًا أَدَّى وَاجِبًا عَابِرًا، بَلْ قَائِدٌ ارْتَحَلَ بِالْوَطَنِ فِي أَعْمَاقِ وَجْدَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى كَاهِلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ.
فِي حَدِيثِهِ تُبْصِرُ وَضُوحَ الْخَارِطَةِ الَّتِي لَا تَضِلُّ طَرِيقًا، وَفِي مَوَاقِفِهِ تَقْرَأُ سِفْرًا مِنَ الِالْتِزَامِ النَّادِرِ. مَبَادَرَاتُهُ لَمْ تَكُنْ أَصْدَاءً تَذْرُوهَا الرِّيَاحُ، بَلْ بُذُورًا تُثْمِرُ قَبْلَ أَنْ تَنْطِقَ الْأَرْضُ بِاسْمِهَا.
يَتَمَيَّزُ عَنْ سَرْبِ الْقِيَادَاتِ الَّتِي مَرَّتْ عَلَى يَمَنِنَا الْحَزِينِ كَظِلَالٍ عَابِرَةٍ.
رَجُلٌ أَصَرَّتِ الْمَرْحَلَةُ أَنْ تَظْلِمَهُ رَغْمَ إِشْرَاقِهِ. وَطَنِيَّتُهُ لَيْسَتْ رِدَاءً يُقَلِّبُهُ مَعَ الرِّيَاحِ، بَلْ شَجَرَةٌ ضَارِبَةٌ فِي تُرْبَةِ الْأَرْضِ، لَا تُزَعْزِعُهَا عَوَاصِفُ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا تَسْحَقُهَا أَمْوَاجُ التَّمْجِيدِ الزَّائِفِ.
فِي زَمَنِ الضَّوْضَاءِ الْعَالِيَةِ، يَبْقَى مِنْ أُولَئِكَ النُّدْرَةِ الَّذِينَ تَسْمَعُ كَلَامَهُ وَكَأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَمْشِي أَمَامَهُ، تُنِيرُ الدَّرْبَ، لَا تَتَوَارَى خَلْفَ أَلْفَاظٍ مُزَيَّفَةٍ.
إِلَى جَانِبِ قِيَادَتِهِ الْأَمْنِيَّةِ الْحَكِيمَةِ، فَهُوَ أَكَادِيمِيٌّ يُمسِكُ بِمِشْرَطِ الْفِكْرِ، وَقَانُونِيٌّ يَزِنُ الْعَدَالَةَ بِمِيزَانِ الضَّمِيرِ، لَا بِمِطْرَقَةِ السُّلْطَةِ.
فِي كُلِّ حِوَارٍ مَعَهُ، تَسْبُرُ غَوْرَ عَقْلٍ تَحْلِيلِيٍّ لَا يَرْتَضِي السَّطْحِيَّ مِنَ الْكَلَامِ، بَلْ يَغُوصُ فِي الْأَعْمَاقِ كَاللُّؤْلُؤَةِ الَّتِي تَرْفَضُ أَنْ تَظْهَرَ إِلَّا مِنْ قَاعِ الْمَحِيطِ.
يَبْحَثُ عَنْ حُلُولٍ كَالصَّيَّادِ الَّذِي يَتَعَقَّبُ الْجَوْهَرَ لَا عَنْ غُبَارِ التَّبْرِيرَاتِ.
مُتَعَاوِنٌ يَنْظُرُ إِلَى مَنْصِبِهِ كَجِسْرٍ لِلْعَطَاءِ، لَا كَقَلْعَةٍ تُحَصِّنُ الْعُزْلَةَ. وَحِينََ يَتَحَدَّثُ، يَنْسَابُ كَلَامُهُ كَرَجُلِ دَوْلَةٍ يَعْرِفُ أَنَّ الْقَانُونَ بِلا رُوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ سَيْفٌ مُسَلَّطٌ، وَأَنَّ الْقِيَادَةَ بِلا بَصِيرَةٍ سَرَابٌ يَخْدَعُ الْعَطْشَانَ.
وَفِي بَلَدٍ تُعَلَّقُ فِيهِ الْوَطَنِيَّةُ عَلَى مَشَاجِبِ الْمَصَالِحِ، وَيُدْفَعُ بِالشُّرَفَاءِ إِلَى الْهَامِشِ لِصَالِحِ الطَّارِئِينَ، يَصِيرُ الْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ تُهْمَةً، وَالْكَفَاءَةُ عَقَبَةً أَمَامَ الْوُصُولِ. فَاللِّوَاءُ عَبْدُهُ التُّرْبُ، الْوَطَنِيُّ الشَّهِمُ، وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارَتْهُمُ الْمَرْحَلَةُ ثُمَّ تَنَكَّرَتْ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَجُلَ صَفَقَاتٍ بَلْ رَجُلَ مَوَاقِفَ، لَمْ يَكُنْ قَائِدًا يُحَنِّي رَأْسَهُ لِلْعَاصِفَةِ بَلْ وَاجَهَهَا بِعَقْلٍ مُتَّقِدٍ.
الْيَوْمَ، وَالْيَمَنُ يَتَقَلَّبُ فَوْقَ جَمْرِ الْحَاجَةِ، يَحْتَاجُ إِلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْقَادَةِ الَّذِينَ أُبْعِدُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُتْقِنُوا فَنَّ الْمُسَاوَمَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حُيِّدُوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيدُوا ارْتِدَاءَ أَقْنِعَةِ التَّلَوُّنِ. لَكِنَّ الْوَطَنَ، مَهْمَا طَالَتِ الْعَتْمَةُ، لَا يَنْسَى رِجَالَهُ الْحَقِيقِيِّينَ.
لَيْسَتِ الْيَمَنُ الْيَوْمَ بِحَاجَةٍ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الْخِطَابَاتِ الْمُنَمَّقَةِ وَلَا إِلَى حَفَلَاتِ التَّوْقِيعِ عَلَى أَوْهَامِ الْحُلُولِ. إِنَّمَا تَحْتَاجُ إِلَى رِجَالِ دَوْلَةٍ لَا رِجَالِ صَفَقَاتٍ، قَادَةٍ يَعْرِفُونََ الْفَرْقَ بَيْنَ السُّلْطَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ، بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْأَمَانَةِ. تَحْتَاجُ إِلَى الْأَكَادِيمِيِّينَ التِّكْنُوقْرَاطِ، الَّذِينَ لَا يَضَعُونَ عِلْمَهُمْ فِي خِدْمَةِ الْجَهْلِ، وَلَا يَبِيعُونَ خِبْرَتَهُمْ عَلَى أَرْصِفَةِ التَّفَاهُمَاتِ الْمُشَبُوهَةِ. تَحْتَاجُ إِلَى الصَّادِقِينَ، الَّذِينَ لَا يُجِيدُونَ اللَّعِبَ عَلَى حِبَالِ الْوَلَاءَاتِ الْمُتَغَيِّرَةِ، بَلْ يُجِيدُونَ بِنَاءَ وَطَنٍ يَشْبَهُ أَبْنَاءَهُ الْمُنْهَكِينَ.
وَبَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ مِنَ الْانْكِسَارِ وَالْخَسَارَاتِ الثَّقِيلَةِ، يَسْتَحِقُّ الْيَمَنِيُّ الَّذِي حَمَلَ وَطَنَهُ عَلَى أَكْتَافِ الْوَجَعِ أَنْ يَرَى نُورًا فِي آخِرِ النَّفَقِ، أَنْ يَشْعُرَ بِأَنَّ هَذَا الْخَرَابَ الَّذِي صَارَ وَطَنًا مُؤَقَّتًا، لَيْسَ قَدَرًا أَبَدِيًّا. يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ الْجَمِيلَ، لَا خِطَابَاتِ الْمُوَاسَاةِ الْجَوْفَاءَ، يَسْتَحِقُّ وَطَنًا يُرَمَّمُ بِالْحَقِيقَةِ لَا بِالْوَهْمِ، وَيُبْنَى بِأَيْدِي مَنْ يُتْقِنُونَ الْبِنَاءَ لَا الْهَدْمَ.
وَخِتَامًا، فَإِنَّ الْوَطَنَ – فِي مُنْعَطَفِهِ الرَّاهِنِ وَمَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ غَدٍ – بِأَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى قِيَادَاتٍ وَاعِيَةٍ كَقِيَادَةِ هَذَا الرَّجُلِ، تُمْسِكُ بِشُعْلَةِ الْأَمَلِ وَتَنِيرُ دَرْبَ الْخَلَاصِ مِنْ ظَلَامِ الْوَاقِعِ إِلَى فَجْرِ التَّغْيِيرِ. قِيَادَاتٌ لَا تَكْتَفِي بِقِيَادَةِ السَّفِينَةِ إِلَى شَاطِئٍ آمِنٍ، بَلْ تَبْنِي مِنْ رُكَامِ الْمَاضِي مَرَافِئَ أَمَانٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَتَسْتَلْهِمُ مِنْ عُمقِ التَّرَابِ قُوَّةً لِتَحْرِيرِ الْيَمَنِ إِلَى النُّورِ، حَامِلَةً عَلَى أَكُفِّهَا رُؤَىً تُزْهِرُ بِعَزْمٍ لَا يَنْكَسِرُ.