آخر تحديث :الجمعة-09 مايو 2025-10:06م

رحيل يقتلع القلب

السبت - 22 مارس 2025 - الساعة 05:15 ص
د. أمين عبدالخالق العليمي

بقلم: د. أمين عبدالخالق العليمي
- ارشيف الكاتب


في مثل هذه الليلة، من عامٍ مضى، احتدمت معركةُ الحياةِ والموت في صدرِ أمي، كأنها كانت تنازعُ الأيامَ على بقائها، تتشبثُ بأنفاسها الأخيرة وكأنها تخشى أن تتركنا وحدنا في هذا العالم القاسي، كنتُ هناك، والقلقُ ينهشُ صدري، أرقبُ عقاربَ الساعة تتحركُ ببطءٍ قاتل، أعدّ اللحظات، أبحثُ في وجوهِ الأطباء والممرضين عن بصيصِ أملٍ، عن كلمةٍ تريحُ هذا القلب الذي كاد يتوقف من الهلع،

كانت ترقدُ هناك، في العنايةِ المركزة، بين أنابيب الأجهزة والأسلاك المتشابكة، وصوتُ الأجهزةِ يقطعُ سكونَ الليل، كأنّه إعلانٌ باردٌ عن قربِ النهاية، عيناها المغلقتان كانتا تحكيان قصصًا لا تُروى، وأنفاسُها التي تلاحقت ثم خبت شيئاً فشيئاً كانت ترسمُ لنا وداعاً صامتاً، وداعاً لم نكن مستعدين له أبداً،

وعند أذان الفجر، سكنَ كل شيء، توقفتْ الأجهزةُ عن إصدارِ أصواتها، هدأَ المكانُ إلا من وجيبِ قلبي الذي كاد ينفجر، ثم جاء الخبرُ كالصاعقة، شعرتُ كأن الأرضَ تميدُ بي، كأن الدنيا ضاقت حتى اختنقتُ بها، كنتُ أصلي الفجر، وحين رفعتُ رأسي، لم أكن أعلم أنني سأرفعُه على عالمٍ جديد، عالمٍ بلا أمي، بلا دفءِ صوتها، بلا ظلّها الذي كنتُ احتمي به من قسوةِ الأيام،

هرولت إلى صالةِ الانتظار، أبحثُ عن أي شيءٍ يمسكُ بقلبي الذي تهاوى إلى القاع، رأيتُ الأطباء يتهامسون، والممرضين يطأطئون رؤوسهم، اخواني كأنهم اعمده عرفتُ أنهم يريدون قولَ شيءٍ لا أريدُ سماعه، فهربتُ ببصري إلى الأرض، لكن الحقيقةَ كانت هناك، كانت في الهواء، في الجدران، في رائحةِ المستشفى، في تلك النظراتِ التي تعلنُ الرحيل دون كلمات،

كنتُ أحلمُ أن تخرجَ أمي من ذلك البابِ على قدميها، كنتُ أمني النفسَ أن تعودَ معنا، أن أسمعَ صوتَها مرةً أخرى، أن تطمئنَ علينا، لكنها خرجتْ محمولةً على الأكتاف، خرجتْ ونحنُ نحملُ خلفَها قلوباً لم تعدْ تنبضُ إلا بالحزن،

منذ ذلك اليوم، وأنا أتحسسُ همساتها في أركانِ البيت، أستنشقُ بقايا أنفاسها، أبحثُ عن دعواتها التي كانت تظللُ حياتي بالأمان، أسمعُ وقعَ خطواتها في الذاكرةِ، وألمحُ ظلّها في زوايا البيت وكل غرفه، لكنني لا أجرؤُ على التخطي الي عتبة بابُ غرفتها صارَ حدَّ الفجيعةِ الذي لا أستطيعُ عبوره، لأنني أخشى أن أجدَ خلفه فراغاً يقتلني اكثر،

يا أمي، يا طيفَ أحلامي، يا أجملَ ذكرياتي، يا أنُسي الانيس في وحشتي، وبلسمَ جراحي، يا دعوةً كنتُ أخبئها في صدري لئلا تضيع، يا قلباً كان يضخُّ الحياةَ في عروقي، يا عيناً كانت تراني الأجملَ مهما شحبَ وجهي، ومهما انحنى ظهري،

أماه، رحلتِ لكنكِ لم ترحلي، سكنتِ قلبي، وتربعتِ في وجداني، وامتزجتِ بأنفاسي، كيف لي أن أنساكِ؟

كيف لي أن أتجاوزَ حزني عليكِ؟ كيف لي أن أتقبلَ الحياةَ وأنتِ لستِ فيها؟

اللهمّ ارحمها، واغفر لها، وأنزلْ عليها نوراً من نورك، واجعل قبرها روضةً من رياض الجنة، وأبدلها داراً خيراً من دارها، وأهلاً خيراً من أهلها، اللهم اجمعني بها في مستقرّ رحمتك، يوم لا فراقَ بعده، ولا حزنَ ولا دموع،

رحمكِ الله يا أمي... رحلْتِ لكنكِ لم ترحلي من قلبي أبداً .