لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يأتيه الرجل فيدخل الإسلام، فإن هذا المسلم الجديد يتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يتلقى جرعات مكثفة من الإيمان، فتسلط على قلبه موجات إيمانية حتى يرتوي قلبه ويتشبع بالإيمان واليقين حتى لكأنه يرى الله تعالى ويشاهد الجنة والنار والعرش والميزان ويعايش البعث والحساب والعرض والصحف والصراط، وتمر أمام عين قلبه مسيرة الأنبياء مع أقوامهم وصراع الرسالات مع الطغاة فيراها رأي العين.
وبعد هذه الشحنات التي يتلقاها من المعلم العظيم صلوات الله عليه يتحول إلى شخص آخر وإنسان جديد، تغيرت رؤيته واهتماماته وخطوط سيره في الحياة، فيستسلم قلبه لأمر الله خضوعا وحبا وعشقا وتعلقا، فينقاد للأمر وكأنه ممغنط بشحنات الإيمان، فتهون عليه نفسه في ذات الله، ويرى الدنيا على حقيقتها ليست سوى ممر عبور وظل زوال، وتشخص عيناه ووجدانه إلى جنة الخلد التي يجد فيها هناك إلهه ومولاه الذي يعبده بالحب والخشية، ويخلد فيها في حياة مختلفة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فيسهل عليه القيام بالأمر وترك النهي والسير إلى الله وتحمل البلاء بشوق ورغبة.
وهذا هو الأصل في ترتيب حياة المسلم مع ربه ورسوله ودينه. وعلى هذا ينبغي أن تقام محاضن التربية والتعليم في المساجد والمدارس والمعاهد والمنابر والدعوات لا أن تبدأ المسألة بصورة عكسية.
ففي كثير من مؤسساتنا يأتي الشاب أو الولد إلى المحضن فيوجه إلى التأسيس العلمي العقلي فيكلف بحفظ القرآن الكريم فيتجه همه وعزمه على إتقان المحفوظ لا التأمل فيه ثم يكلف بحفظ متون علمية ودراسة علوم الآلة وحفظ منظومات في النحو واللغة والأصول والمواريث والفقه والعقيدة وغيرها فتنهك قواه وترهق عزيمته وهو يطارد الألفيات وهكذا يصب الجهد على عقله لا على قلبه فيغرق سني عمره في هذه العلوم دون تأسيس إيماني، أو مع ضعف التأسيس الإيماني، ولربما أصبح عالما متبحرا في هذه العلوم ولكنه هزيل الإيمان ضعيف اليقين، وبهذه الطريقة وجد علماء السلطان وعلماء الدولار الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل.
ولا يفهم من هذا الكلام التعميم، ولا يفهم منه أيضاً أن تهمل هذه العلوم ولكن تؤجل حتى تؤسس أرضية صلبة على خرسانات متينة من الإيمان واليقين، لأنه بالمقابل وجدت جماعات تهتم بالإيمان واليقين وتهمل العلوم فنشأ أقوام عباد صالحون جهلة، لربما وقعوا في الشرك أو البدعة أو الحرام وهم لا يعلمون.
أتمنى أن يعاد النظر في مناهج التعليم وطرقه وأساليبه ومراحله فيبدأ الطلاب بقراءة القرآن الكريم ويمنعون من حفظه ويكررون تلاوته ويلقي عليهم المعلم قصص القرآن الكريم ومقاصده وينبههم إلى مافيه من الأنوار والقصص والعبر سواء كان التعريف بالله وحكايات الرسل وقصص القرآن وتفاصيل اليوم الآخر ووصف الدنيا وأحوال الصالحين والعصاة ومنازل السائرين ومصارع الطغاة، ويكرر ذلك حتى يستوعب المجمل العام والمقصد الكلي للوحي.
ويتلقى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله ومافي كلماته صلى الله عليه وسلم من الخير والنور فيقرأ الأربعين النووية قراءة وتكرارا دون حفظ وكذلك رياض الصالحين وأبواب من مختصر صحيح البخاري ومختصر صحيح مسلم ويشبع بقصص الصحابة وفضائلهم كتطبيق عملي للدين الذي تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويدرب على العبادات والنوافل ويتلقى الفضائل ويشرب الأذكار ويحفظ الدعوات والابتهالات.
فإذا مرت سنة أو سنتان او أكثر ورسخت أعمدة الإيمان وامتلأ الوجدان بالحب واليقين يمكن بعدها أن يتجه من هم مهيئون لتلقي العلوم الشرعية المختلفة لمواصلة طلب العلم والارتقاء فيه، مع مافي قلوبهم من إيمان سيجعلهم يزدادون إيمانا مع كل زيادة في العلم وخاصة علم الوحيدين. ويبقى أكثر المجتمع الذين هم غير مهيئين للتبحر في العلم يتلقون ما يحتاجون إليه من العلوم وتكثف عليهم شحنات الإيمان ويوجهون إلى الاستفادة من العلماء الربانيين في ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام.
.