من المؤلم أن نشهد كيف تتجاهل الدولة رجالها العظماء، أولئك الذين بنوا اللبنات الأولى للقوات المسلحة، ووضعوا أسس جيش وطني كان يملأ السمع والبصر قوةً وانضباطًا. رجالٌ أفنوا حياتهم في الدفاع عن سيادة الوطن، وقادوا معارك الشرف والإباء، واليوم نجدهم في فقرٍ وعوزٍ لا مثيل له، كأنما التاريخ يتخلى عن صُنّاعه، وكأنما الوطن الذي دافعوا عنه أصبح غريبًا عنهم.
جيش الجنوب.. قوة وانضباط
لم يكن جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مجرد تشكيل عسكري، بل كان مؤسسة وطنية بنيت على أسس صلبة، اعتمدت على الانضباط والاحترافية والولاء للوطن قبل أي شيء آخر. كان الجيش الجنوبي يمتلك كفاءات عسكرية عالية المستوى، ويضم في صفوفه طيارين مهرة، وضباطًا يحملون عقيدة قتالية وطنية خالصة، خاضوا معارك مصيرية، وحموا حدود البلاد من الأخطار، وساهموا في بناء منظومة دفاعية متماسكة جعلت الجنوب قوة لا يُستهان بها في المنطقة.
لكن، ورغم كل هذه التضحيات، وجد هؤلاء الرجال أنفسهم اليوم مهمشين، منسيين، لا يجدون من يعترف بفضلهم، ولا من يمد لهم يد العون.
من التهميش إلى المعاناة
بعد الوحدة اليمنية عام 1990، بدأت مرحلة جديدة، لكنها لم تكن كما كان يأمل رجال القوات المسلحة في الجنوب. ورغم توقيع اتفاقيات تضمن اندماج الجيشين في مؤسسة عسكرية وطنية موحدة، إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا. بدأت عمليات الإقصاء الممنهجة، وتم تسريح آلاف الضباط والجنود الجنوبيين تحت مسميات مختلفة، بعضها تحت ذريعة “إعادة الهيكلة”، وأخرى عبر الإحالة القسرية إلى التقاعد المبكر دون أي ضمانات تحفظ كرامتهم.
أما الطيارون، وهم من نخبة الكوادر العسكرية، فقد تم إبعادهم عن المشهد، رغم أن كثيرًا منهم تلقوا تدريبهم في أرقى الأكاديميات العسكرية في العالم، وكانوا يشكلون العمود الفقري للقوة الجوية الجنوبية.
التهميش المتعمد.. وسياسات الإقصاء
لم يكن التهميش مجرد صدفة أو خطأ إداري، بل كان جزءًا من سياسة مدروسة هدفت إلى إضعاف الجنوب وحرمانه من كوادره العسكرية، حتى لا يكون له نفوذ مستقبلي داخل المؤسسة العسكرية الموحدة.
ومع اندلاع حرب 1994، كان واضحًا أن الجيش الجنوبي لم يعد يُنظر إليه كشريك، بل كخصم يجب تفكيكه. وبعد الحرب، أصبح الضباط الجنوبيون بين قتيل ومطارد ومنفي، بينما أُحيل الآلاف إلى البطالة دون رواتب أو تعويضات.
استبدال الكفاءات بالولاءات الشخصية.. وملشنة الجيش والأمن
لم يقتصر الأمر على تهميش وإقصاء القادة العسكريين الجنوبيين، بل جرى استجلاب شخصيات لا تمتلك أي خبرة عسكرية، وإسناد قيادة ما يُسمى اليوم بـ”الجيش الجنوبي” وأحزمته الأمنية ونخبه وصواعقه إليهم، فقط لأنهم من “ذوي القربى” أو محسوبون على جهات معينة.
كان المفترض أن يتم الاعتماد على الكفاءات العسكرية التي تمتلك خبرة وتجربة، لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. تم إسناد المناصب القيادية إلى أشخاص لا يفقهون ألف باء العلوم العسكرية، وتحول الجيش من مؤسسة وطنية إلى تشكيلات قائمة على الولاءات والمحسوبية، تُدار بمنطق القبيلة والمناطقية، وليس بعقلية الدولة والانضباط العسكري.
والأخطر من ذلك، أننا نرى اليوم ملشنة للمؤسستين العسكرية والأمنية، وبتوجيهات مباشرة من أصحاب القرار، حيث يتم تشكيل كيانات عسكرية وأمنية خارج إطار الدولة، تعمل بشكل منفصل عن الجيش النظامي، وتدار من قبل شخصيات غير مؤهلة عسكريًا، مما أدى إلى تفتيت القوات المسلحة وتحويلها إلى مليشيات متصارعة فيما بينها.
هذا الاستبدال الخطير أدى إلى:
1. انهيار العقيدة العسكرية: تحولت القوات من جيش وطني إلى مجموعات غير متجانسة، تعمل دون رؤية واضحة أو عقيدة قتالية محترفة.
2. انتشار الفوضى الأمنية والعسكرية: ضعف القيادة وسوء الإدارة جعلا هذه التشكيلات عرضة للاختراقات والصراعات الداخلية.
3. إضعاف الدولة: عندما تدار المؤسسة العسكرية بهذا الشكل، فإن ذلك ينعكس على الأمن والاستقرار، ويجعل الدولة عاجزة عن حماية نفسها أو فرض سيادتها.
4. إهانة تاريخ الجيش الجنوبي: استبعاد الضباط الحقيقيين وإحلال شخصيات لا تملك أدنى معرفة عسكرية هو طمس لتاريخ الجيش الجنوبي، وتشويه لتضحيات رجاله.
5. تفتيت الجيش وتحويله إلى مليشيات: لم يعد هناك جيش موحد، بل أصبحت هناك قوات متعددة الولاءات، لا تخضع لمنظومة عسكرية واحدة، بل تدار من قبل مراكز نفوذ مختلفة، ما يجعل أي حديث عن “جيش وطني” مجرد وهم.
النتيجة: رجالٌ بلا دولة.. وجيش بلا هوية
اليوم، نرى هؤلاء القادة العسكريين، الذين صنعوا تاريخ القوات المسلحة، يعيشون في أوضاع مأساوية. بعضهم يعاني الفقر، وبعضهم الآخر أُهمل صحيًا حتى وافتهم المنية دون أن يُكرموا أو يُحتفى بتاريخهم النضالي. لم تُخصص لهم رواتب تليق بخدمتهم الطويلة، ولم يُعطوا أي امتيازات كما يحدث في الدول التي تحترم جيوشها.
وفي المقابل، نجد من لا يمتلك أي خبرة عسكرية يقود تشكيلات أمنية وعسكرية، دون أي اعتبار للكفاءة أو التأهيل، مما جعل القوات المسلحة مجرد أداة تُستخدم لتحقيق مصالح ضيقة، بدلًا من أن تكون مؤسسة وطنية تحمي الشعب وتحافظ على استقرار الدولة.
رسالة إلى الدولة.. وإلى التاريخ
إن الأمم التي لا تكرّم رجالها الأوفياء تفقد جزءًا من هويتها، والتاريخ لن يرحم من يتخلى عن صُنّاعه. الدولة مسؤولة عن هؤلاء القادة، ومن العار أن يظلوا في طي النسيان وهم الذين دافعوا عنها يوم كانت بحاجة إليهم.
إنصاف هؤلاء الرجال ليس منّة، بل هو حقٌّ لهم وواجبٌ على الدولة والمجتمع. فتح ملفاتهم، إعادة الاعتبار لهم، صرف مستحقاتهم، وإشراكهم في صنع القرار العسكري والأمني، كلها خطوات لا بد منها لإعادة بعض الوفاء إلى من أعطوا الوطن كل شيء ولم يأخذوا منه شيئًا.
وفي المقابل، يجب إعادة تقييم القيادات الحالية، وإقصاء من لا يمتلكون أي خبرة عسكرية حقيقية، وإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية، لا على أسس الولاء والمحسوبية. كما يجب وقف عملية ملشنة الجيش والأمن وإعادة هيكلتهما ضمن إطار وطني موحد، يضمن أن تكون هذه المؤسسات في خدمة الوطن، وليس في خدمة مصالح شخصية أو فئوية.
في النهاية، قد ينسى السياسيون، وقد يتجاهل أصحاب القرار، لكن التاريخ لا ينسى، والأوطان لا تبنى إلا بوفاء أبنائها لمن ضحّوا في سبيلها.
اللواء الركن : سعيد الحريري