الحرية غالية الثمن في هذا الوجود، فالكثير من الناس اليوم أصبحوا مقيدين في قفص الحياة الدنيا من حيث يشعرون بذلك أو لا يشعرون، هناك أقفاص حقيقية مثل الاستبداد والظلم والسجون وغيرها، وهناك أقفاص أخرى تتشكل في الفكر والعقل من خلال الثقافة والمعلومات والسلوك والتربية وغيرها، وهناك أقفاص وهمية تشعر بقيودها لكن لا تلمسها ولا تحس بها.
كل هذه الأقفاص التي تفرضها الأنظمة والأحزاب، والأيديولوجيات، ووسائل الإعلام والاتصال، وربما أيضًا الشعوذة والدجل وغيرها، تريد الناس أن يصيروا عبيدًا لها في الحياة الدنيا، تؤطرهم بإطارات مختلفة نمطية خوفًا من الحرية.
الحرية عدو لدود لدى المستبدين بكافة أشكالهم وأحجامهم وإمكاناتهم، والمستبد وإن كان يتدثر بالدين والفضيلة، هو مستبد في كل الأحوال، يعمل ضد إرادة الله في الحياة والأرض، والذي يعمل ضد إرادة الله هو شيطان بالمعنى الكامل للكلمة.
ولأن الله هو مصدر الحرية في الأرض والكون، وعامل لها نظامًا متكاملًا في الإدارة والإبداع والرفعة والسمو والنمو والتطور والحركة، فإن أي مستبد في الحياة يفرض قوانينه من خارج هذا المصدر، يعد متمردًا على الله، ومن يصير عبدًا لمستبد متمرد على الله، لا يمكنه أن يذوق طعم الحرية الحقيقية، ويصبح بالضرورة غير مؤهل لأن يصير حرًا وعبدًا لله وحده لا شريك له.
بمعنى آخر، فإن من وقع في قفص العبودية البشرية أو المادية أو عبودية الوهم، فلا يمكن أن يعانق الحرية المطلقة الآتية من الله، وبالتالي لن يعرف الله حق المعرفة، أو يهتدي إلى حقيقة الوجود في الأرض والحياة.
قال الخليفة عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!". وفي آيات القرآن نجد الكثير من مثل قوله تعالى: "أفلا تتدبرون، أفلا تعقلون، أفلا تؤمنون.." وغيرها من المفردات التي تخاطب العقل بمطلق الحرية والتحرر والتأمل، فلماذا بعد كل هذا نصير عبيدًا لهذا الحاكم أو الملك أو الحزب أو النظام، وهو يسن قوانينه وسلوكه من خارج ما يأتي به المصدر الحقيقي للحرية والوجود، وهو الله؟
لن تكون مسلمًا إلا إذا كنت عبدًا لله مستسلمًا لأوامره ونواهيه، هذا هو المعنى الحقيقي للمسلم، وما معنى الاستسلام لأوامر ونواهي الله؟ المعنى أن تؤمن بهذه الأوامر والنواهي، وما معنى أن تكون صالحًا؟ معنى ذلك أن تطبق هذه الأوامر والنواهي على الواقع العملي في الحياة، لذلك الله دائمًا يخاطب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويعدهم بالاستخلاف في الأرض وبالجنة، لذلك علينا مما سبق أن نفهم أن الإسلام خضوع واستسلام لله، لكن هذا لا يكفي بدون الإيمان والعمل الصالح اللذين هما التطبيق العملي للإسلام، لذا قيل في تعريف الإيمان بأنه: ما وقر في القلب وصدقه العمل.
من هنا علينا أن نعي أنه إذا ظل هذا الإسلام حبيسًا في قفص الأنظمة والأحزاب والحركات الاستبدادية بما يعتريها من جهل وخرافات وعصبيات وضلال، فإن المجتمعات لن تذوق طعم التحرر والحرية، فلا يمكن أن يكون المسلم حرًا في ظل إسلام محبوس في القفص، ولا يمكن أن يتحرر الإسلام في ظل مسلم صار عبدًا لمستبد يعبد أهواءه ونزواته ومآربه الخاصة ومن يقف خلفه، ويرى في الحرية عدوًا وجريمة لا تغتفر.
حينما نقول إنه لا بد من إصلاح مسار الدين والأمة، فإننا نعني بذلك أن الإسلام الحق اختُطف من مساره الحقيقي الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إلى مسارات الأنظمة والحركات والأحزاب المستبدة، من مسار الحق الإلهي إلى مسار الباطل والضلال والشرك، والعياذ بالله.
لا نقول إن الجميع على باطل وضلال، ولكن في الواقع فإن الإسلام بحاجة اليوم إلى أن نعود به إلى مساره الصحيح، إلى أن نضعه في طريق الله المستقيم، لأن سبب ما يلحق بالإسلام اليوم من تشويه وتهم الإرهاب، ليس الإسلام بحد ذاته، وإنما الذين انحرفوا عن طريقه القويم إلى طرق أخرى، ثم اختطفوا الإسلام إلى هذه الطرق المتشعبة والضالة تحت مسميات وشعارات عديدة، وأرادوه أن يصبح ملكًا لهم لتوظيفه بصورة لا تنتج إلا مزيدًا من الشقاق والاستبداد والجهل والظلام والتناحر والتخلف.
وتأسيسًا على ما سبق، نؤكد أننا فعلًا نعيش جاهلية جديدة أسوأ من جاهلية ما قبل ظهور الإسلام، ولن يخرجنا الله من ظلام هذه الجاهلية إلى نور الإيمان الحق، نور الرقي والرفعة والسمو والعزة والكرامة، إلا بالحرية التي تحرر الإسلام من قفص الاستبداد والجهل والاختطاف، وتعيده إلى مساره الحقيقي، مع التجديد المطلوب لكل زمان ومكان، ومع التوحيد الخالص لله، وذلك من أجل سعادة المسلمين والبشرية كلها، فالإسلام هو ملك البشرية كلها التي ولدت على فطرة الإسلام، وسوف تعود إلى الفطرة الإسلامية في يوم ما بات قريبًا.