في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم كنت طالبا في دار الحديث بمأرب في مركز الشيخ أبي الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني حفظه الله ، وفي يوم الجمعة كلفت مع عدد غير قليل من الطلاب بخطبة الجمعة في مساجد الصحراء، وانتشرنا في تلك المساجد وكان نصيبي مسجدا في قرية بعيدة لا أتذكر اسمها الآن وكان معي رفيق من عدن أصغر مني سنا لكنه أقدم مني في المعهد ويعرف المنطقة جيدا ، وقد أخذت على حين غرة ولم أتناول الفطور يومها وكنت جائعا، واستمهلت سائق السيارة حتى أتناول لقيمات تطرد عني الجوع، والتغذية كانت في المعهد آنذاك صعبة للغاية، خبز جاف مع فول معظمه ماء نجرعه بكأس من الشعير الساخن ، ورغم ذلك حالت عجلة السائق بيني وبين هذه الوجبة الجافة، فكنت أعزي نفسي بأني في (مأرب) بلاد القبائل العريقة حيث يتنافس الكرم العربي على الضيف الغريب، المهم انطلق بنا الشاص يشق رمال الصحراء حتى وصلنا إلى قرية متوسطة كل بيوتها مبنية باللبن، بل وحتى المسجد الذي يعد كبيرا مقارنة بالقرية مبني هو أيضا باللبن، وكانت خطبتي عن شمائل أبي هريرة وسيرته، أكملت الصلاة وعصافير بطني تغرد وكنت أتخيل اللحظة التي يزدحم فيها المصلون على هذا الضيف ليفوز أكرمهم نفسا وأعزهم بيتا باستضافته.
لكن. .....
أخذ المصلون يتفرقون من الأبواب منصرفين دون أن يجاملنا أحدهم حتى مجاملة، وكنت على يقين أني لن أصل المعهد إلا بعد أن يأتي الطلاب على الغداء الذي لا يقل جفافا عن الفطور، أما العشاء فهو نسخة مكررة من الفطور.
التفت إلى مرافقي المتكىء على جدار المسجد وكأنه قرأ مايجول بخاطري فأرسل إلي ابتسامة تخفي وراءها ضحكة مكتومة ، فرغ المسجد إلا من العدد القليل من المصلين، فسعى مرافقي إلي وصافحني وشكرني على الخطبة وأخذ يمطرني بكلمات لم يجعلني الجوع أعيرها اهتماما.
قلت له : أين الشاص؟
قال : سوف يتأخر، ذهب إلى قرية مجاورة.
قلت : وكيف من الغداء أكاد أموت جوعا.
ضحك ثم قال : قم، فقمت وأنا أهامسه ضاحكا : أين الكرم المأربي؟ أين القبائل الشرسة؟
فقال : في هذه القرية لن يجرؤ أحد من المصلين أن يستضيف خطيب الجمعة ، فهنا عادة مستقرة فرضتها (المرأة العجوز)فهي وحدها من تستضيف الخطيب، ولن تسمح لأحد أن يتجاوزها، أسرع الآن فالعجوز تنتظرنا في ديوانها المتواضع.
دلفنا إلى بيت عجوز سمراء تبدو عليها الهيبة والقوة تعلو جبهتها خطوط من الوشم مع تجاعيد توحي بقصة صعبة مع الحياة، تبدو عريضة الوجه واسعة العينين جهورية الصوت، فأخذت تمطرنا بكلمات الترحيب وتقدم لنا مع ولد صغير - أظنه حفيدها- ما لذ وطاب من الأرز واللحم والمرق والخبز المفتوت في المرق الممزوج بزيت السمسم، فأكلنا حتى رشحنا وشبعنا ثم قدمت لنا الشاي والقهوة.
كان هذا الحدث عام ١٩٩٤م.
لا أحسب أن هذه المرأة الكريمة العصامية ابنة الصحراء لا تزال حية إلى اليوم.
لم أعد أتذكر اسم القرية ولا اسم سائق الشاص بل أني نسيت من كان رفيقي في تلك الرحلة.
.