في بدايات كتابتي للشعر كنتُ كلما أثنى عليَّ أحدهم ومدحني واستجاد شعري أقول هذه العبارة:أنا لستُ شاعرًا وإنما متطفلُ على موائد الشعر.
وكنتُ قد سمعتُ هذه الجملة من أحد الذين تأثرتُ بهم في مشواري الشعري.
وفي إحدى الأيام كنتُ في حديثٍ مع الشاعر الكبير صديقي الغالي عبدالله بن محمد العنزي أبو أصيل
فقال لي:لاحظتُ أنكَ ترددُ كثيرًا عبارة:"لستُ بشاعر"
يا عزيزي يا سالمين،إن لم تؤمن بنفسك أولًا لن تجدَ من يؤمن بك في المستقبل،وأردفَ قائلًا:تواضع في كل شيءٍ في الشعر كن مغرورًا!.
وهذا ما يجبُ أن يكون عليه الشاعر،فالتواضعُ في الشعرِ سمةٌ غير محبوبةٍ عند الكثير من الناس،بل إنّ بعض العلماء الدين عُرف عنهم التُقى إذا كتبوا الشعر تحسبُ أنكَ تقرأ لأحدِ شعراء الحماسة،وقد قرأتُ أبياتًا للشافعي رضي الله عنه يفتخرُ فيها بنفسه وهو من هو في التقوى والتواضع،ولكنّ مقام الشعر أبى عليه إلا أن يلبسَ حُلةً غير حُلتهِ التي اعتاد عليها،وفي هذه المقالةِ سوف أُرِدُ بعض الأبياتِ التي فيها شيءٌ من غرور الشعراء واعتزازهم بأنفسهم وهي في الشعر العربي كثيرةٌ جدًا لا تُعدُّ ولا تحصى.
يقول الشافعي مفتخرًا بنفسهِ:
هِمَّتي هِمَّةُ المُلوكِ وَنَفسي
نَفسُ حُرٍّ تَرى المَذَلَّةَ كُفرا!!
وَإِذا ما قَنِعتُ بِالقوتِ عُمري
فَلِماذا أَزورُ زَيداً وَعَمرا
وقال في موضعٍ آخر:
عَلَيَّ ثِيابٌ لَو تُباعُ جَميعُها
بِفَلسٍ لَكانَ الفَلسُ مِنهُنَّ أَكثَرا
وفيهِنَّ نَفسٌ لَو تُقاسُ بِبَعضِها
نُفوسُ الوَرى كانَت أَجَلَّ وَأَكبَرا
ما ضَرَّ نَصلَ السَيفِ إِخلاقُ غِمدِهِ
إِذا كانَ عَضباً حَيثُ وَجَّهتَهُ فَرى
والمتنبي أكثر من الغرور في شعره حتى لتحسب أنهُ لم يكتب قصيدةً واحد إلا ومدح نفسه فيها بل إنه كان يبدأُ بمدح نفسهِ أولًا قبل ممدوحهِ ففي مميتهِ التي يمدحُ فيها سيف الدولة قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
إلى آخر الأبيات المشهورة وله أيضًا:
أنا تربُ الندى وربُّ القوافي
وسمامُ العِدى وغيظُ الحسودِ!
وقال:
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي!
وللبحتري بيتٌ جميل يصفُ فيه جودة شعرهِ وعلوه وكأنه يتفضلُ على الممدوح به وقد أخذ المعنى من أستاذهِ أبي تمّام:
ليواصلنك ركب شعري سائراً
يرويه فيك لحسنه الأعداء
وهو مأخوذٌ من بيتِ أبي تمّام:
فإن أنا لم يمدحك عني صاغراً
عدوك فاعلم أنني غير حامد
وقد عُرف هذا الأسلوب منذُ بداية الشعر وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويطربني كثيرًا قول سيّد الشعراء امرئ القيس بعد أن أتمَّ وصف ناقتهِ في رائعته "سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا" قال:
عليها فتىً لم تحمل الأرضُ مثلهُ
أبرُّ بميثاقٍ وأوفى وأصبرا!.
ولتأبط شرًا بيتٌ في غاية الجمال:
لتقرعنَّ عليَّ السنَّ من ندمٍ
إذا تذكرتُ يومًا بعض أخلاقي!
ومن المتأخرين الذين كتبوا على هذا النهج وأجادوا شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري إذا يقول مثلًا في قصيدته الوترية عن أعدائه:
أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهمُ
أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا!
ومن الأصدقاء الذين تشرفتُ بمعرفتهم الحبيبُ أبي شبيبٍ الهاشمي يكثر من الغرور في شعرهِ ولعمري إنه لأهلٌ له فمن أبياتهِ الرائقة في هذا الباب:
خُلِقْتُ عَصيَّ النَّفْسِ جَلْدًا على البِلى
كــذلــكَ أبْــنــاءُ الــضَّـراغِـمِ تُــخْـلَـقُ
وقوله:
تَعوَّدتُ تمْزيقَ الخُطوبِ وإنَّما
مُعوَّدةٌ نَفسُ الشُّجاعِ الشَّدائدا
وقوله:
يَـنْفكُّ يُرْعِدُ مِن بَعْدي ويَشْتُمني
حـتَّـى إذا مــا رآنــي فــرَّ يَـهْتِزعُ
أنـا ابْـنُ حـيْدرَ إمَّـا كنتَ تجْهلُني
فـقبلُ قـد جهِلَ الضِّرغامةَ الضَّبعُ
قدْ علمَ الضَّاربونُ الهامَ مِن مُضرٍ
يـومَ الـتَّصادُمِ أنِّي الأشْوسُ المَصِعُ
والشواهد في هذا الباب كثيرة أكثر من أن تُعدَّ أو تحصى ولولا خوفي من أنْ أطيل عليك عزيزي القارئ لوضعتُ المزيد في هذه المقالة ولكن كما قيل:ربُّ إيجازٍ خيرَ من إسهاب،ألقاكم بخير.