آخر تحديث :الخميس-07 أغسطس 2025-02:26م

الإنسان المقهور في مجتمع متخلف، والشعور بالاغتراب في بلده .

السبت - 21 ديسمبر 2024 - الساعة 04:22 م
مشتاق العلوي

بقلم: مشتاق العلوي
- ارشيف الكاتب


مقالي اليوم موجه إلى النُخبه الحاكمة في بلادنا، وكذا مديرون المحافظات، والمديريات، والمراكز، والمرافق العامة بشكل عام.


إنَّ الإنسان المقهور في المجتمع المتخلف يعيش حالة من الاغتراب الوجودي، حيث لا تتسق ذاته مع محيطه الاجتماعي. فالمرافق العامة التي يُفترض أن تكون امتداداً لمصالحه وحقوقه، تتحول في مخيلته إلى رموز للهيمنة، مساحات مغلقة مملوكة للقلة المتسلطة. طريقة التعامل التي يتلقاها ليست سوى انعكاسٍ لبنية هرمية تنفي المساواة، وتخلق مسافات شاسعة بين المواطن والمرافق، تُشعره أنه مجرد كائن هامشي، متلقٍ لا أكثر، يُمنح الفتات كمنّة لا كحق.


لكن، ماذا يحدث عندما تُرفع السطوة، أو ينهار نظام تلك السلطة ولو مؤقتاً؟ هنا يتجلّى الوجه الآخر للإنسان المقهور، ذلك الذي يقبع في ظلال الكبت والقهر، ولكنه يحمل داخله بذور التمرّد. عندما تهتز منظومة السيطرة، أثناء الحروب أو الأزمات الداخلية، يصبح "التخريب" لغة احتجاجية، وسلوكاً عدوانياً ليس موجهاً نحو الممتلكات ذاتها، بل نحو السلطة التي ترمز إليها. وكأن الإنسان المقهور يقول بفعله: "إن لم أستطع امتلاك هذا العالم، سأدمر رموزه التي تذكرني بعبوديتي."


وهذا ما شاهدناه باعيُننا جميعًا خلال الحرب في 2015، عندما تم نهب وتدمير المرافق العامة من قِبل المواطنين، إن ذلك العمل التخريبي هو عبارة عن سلوكٍ تعبيري عن احتجاج مزدوج: 1- رفض السلطة العفاشية التي احرمت أبناء شعب الجنوب من الوظائف، والخدمات العامة في تلك المرافق. 2- رفض المؤسسات التي فشلت في احتضانه، عندما كان في حاجتها، إنه يشعر أن تلك المؤسسات تعمل لصالح السلطات المتسلطة، او أحدا الطبقات، لذا فإن المُخرب يرى من خلال تخريبه انه يُعيد تشكيل العلاقة بينه وبين تلك السلطات او المؤسسات، لكن عبر الفوضى والهدم، وليس عبر البناء.


والآن دعونا ننظر من منظور فلسفي إلى العلاقة بين الاغتراب والعدوانية، يتجلى في هذا السلوك مفهوم "الاغتراب" (Alienation) الذي تناوله هيغل وماركس وغيرهما. فالإنسان الذي يجد نفسه منفصلاً عن جوهره الاجتماعي والاقتصادي يتحول إلى كائن غريب عن نفسه وعن محيطه. هذا الاغتراب يتعاظم في المجتمعات المتخلفة، حيث المؤسسات العامة، التي يُفترض أنها تمثل إرادة المجتمع، تُختزل في أدوات تحكمية تعمل لصالح طبقة أو سلطة محددة.


لكن هذا الانفصال لا يقف عند حدوده النفسية أو الاجتماعية؛ إنه يتحول إلى عدوانية موجهة نحو البنية ذاتها. الفيلسوف فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" يصف كيف أن الإنسان المقهور حين يُمنح فرصة التعبير عن غضبه، فإنه ينفجر في وجه البنية التي قهرته. هنا يصبح التخريب وسيلة لتحطيم الرموز التي تمثل القهر، حتى لو كان هذا التحطيم يقود إلى فقدان ممتلكاته هو نفسه.


ومن الدلالات الرمزية: بين القهر والتملك هي: إن الإنسان المقهور لا يرى في المرافق العامة سوى امتداد للقوة التي تسلبه حقه في التملك والمشاركة. وحين يقوم بتخريب هذه المرافق، فإن سلوكه يصبح تعبيراً عن احتجاج مزدوج: رفض للسلطة ورفض للمؤسسات التي فشلت في احتضانه. إنه يعيد تشكيل العلاقة بينه وبين الفضاء العام، لكن عبر لغة الفوضى، لا البناء.


ولإنقاذ الإنسان المقهور من هذه الحلقة المفرغة، لا بد من إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمجتمع، بين الفرد والمؤسسة. الفيلسوف جون راولز يتحدث عن "العدالة كإنصاف"، وهو مفهوم يعيد للمجتمع التوازن عبر خلق نظام يضمن توزيعاً عادلاً للحقوق والواجبات. أما هانا آرندت فتُشير إلى أهمية الفضاء العام كمساحة للتفاعل والحوار، لا الهيمنة والإقصاء.


إذاً، لا يمكن معالجة العدوانية الناتجة عن القهر إلا عبر بناء مؤسسات شفافة وشاملة، تعترف بالمواطن كفاعل وليس كمفعول به، وكشريك في صناعة المعنى لا كمتلقٍ للأوامر.


إن الإنسان المقهور ليس عدواً لمجتمعه، بل هو ضحية لبنية اجتماعية تكرّس الهيمنة وتقتل روح الانتماء. وحين يثور على رموز هذه البنية، فإنه يطالب بشكل غير مباشر بالاعتراف بإنسانيته وحقه في العيش بكرامة. الإصلاح الحقيقي يبدأ حين نعترف أن الفرد ليس آلة تعمل لخدمة السلطة، بل روح تبحث عن الحرية والمعنى في عالم مشترك.