آخر تحديث :الخميس-25 ديسمبر 2025-02:10ص

هنا لندن .. تاريخ وذكريات

الثلاثاء - 12 نوفمبر 2024 - الساعة 09:49 ص
أنور العنسي

بقلم: أنور العنسي
- ارشيف الكاتب


هنا لندن .. تاريخ وذكريات

——

‏BBC.. نهايةُ حلم

ووداعٌ متأخرٌ ، مؤثر!

أنور العنسي

قَدْرُ الشعورِ بالزهوِ والامتياز، كان الإحساسُ بالألمِِ وخيبةِ الامل..

طالما تكرر هذا الأمر عندي مراراً ، وطوال حياتي ..

يحدث ذلك في حياة كثيرين منّا، بين حينٍ وآخر .

بعد تجربةٍ خصبةٍ وصاخبةٍ في اليمن، صحفيةٍ طموحة، وسياسيةٍ ساذجة، معجونةٍ بالأمل والإحباط معاً، وجدت نفسي بعدها وبسببها صحفياً مهاجراً، بالاضطرار ، إلى بلدانٍ عربيةٍ وإفريقيةٍ عدة، ثم محاصراً لنحو أربعةٍ وعشرين عاماً بصقيع الشمال البريطاني، حباً في مهنةِ جديدة، وخبرة عملٍ إضافيّة، وذلك في بلدٍ أوروبيٍ عريقٍ ، وإمبراطوريةِِ إعلامٍ غربيةٍ عملاقة، ومهنةٍ لم تكن في الواقع مجرد وظيفةٍ فحسب، بل حياة كاملة مكتملة.

لكن ما قد لا يعرفه كثيرون، في المقابل، أن العمل في وظيفةٍ كهذه في مؤسسةٍ تسْتَميت في الدفاع عن مهنيتها وحيادها ونزاهتها يجعل الصحفي المنتمي إليها، يعمل أحياناً بشكلٍ ميكانيكيٍ بارد، فيزيائيٍ جامد، وهو يقوم بتغطية أكثر الحروب والأزمات مأساويةً، ويُجبر على أن يضبط أعصابه عند الدرجة الـ 20 تحت الصفر ، ويُبقي في الثلاجة على آراءه وعواطفه ، ويتغافل مُجبَراً عن مشاعر الإنسان المثقف في داخله مؤقتاً.

لندن BBC الأطول مساراً وخِبرة

عندما أطبقَت مديرةٌ كبيرة ملف قبولي لدى هيئة الإذاعة البريطانية بعد أن درسَت بعنايةٍ كل أوراقه على ما أظن، ، قالت "أنت صحفي عصاميٌ ومثابر" ومما قالته أيضاً من قبيل الإطراء "أنت لست َفقط هدية الله للصحافة في اليمن، لكنك أيضاً هدية اليمن لـ BBC” لا أدري لماذا كانت بحاجة إلى هذه المبالغة ، لكنها في النهاية أخذَت بيدي، بعد هذا الثناء والتشجيع، إلى خارج مكتبها، محفزةً ومودَِعةً لي بقولها الذي لم أرها بعده "إمض إلى مشوارك المهني الجديد .. فهكذا هي الحياة"!

بامتزاجٍ غريبٍ بين اليأس والرجاء أدركْتُ أنني بعد تجربةٍ ممتدةٍ لنحو ثلث قرنٍ وقت ذاك في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة) مَنحتُ خبرتي الطويلةَ لغير بلادي ولسوى إعلامها ودون صحافتها.

نفسُ هذا الشعور المزدوج بالإنجاز والارتباك إنتابني أيضاً عندما أدَّيتُ في حيرةٍ شديدةٍ قسَمَ الولاءِ للملكة (اليزابيث) الثانية، بعد أحد عشر عاماًً من استحقاق البقاء والعمل.

لحظة حدث ذلك، شعرت أنني أصبحت بالضرورة منقسماً بين واحدٍ من رعايا دولةٍ عظمى و آخر يجري بلدُه الأصليُ الحزينُ والمتشظي في كريات دمه وأوردة قلبه.

بتعبيرٍ آخر أكثر وضوحاً، وعَيتُ أن بلداً فرضت عليَّ ظروف الهجرة إليه، كرْهاً لا اختياراً، أن أصبح بالضرورة مواطناً فيه ، مزدوجَ الجنسية وفقاً للقانون، في صراعٍ دائمٍ مع أسئلةِ الذات وصراع الهوية، وهذه غربةٌ كانت لها كلفتها النفسية الخاصة الباهضة التي ربما لا يشعر بها كثير من المهاجرين!

في كلا الحالتين شعرت أنني انقسمت إلى نصفين، بين (عَلَمٍ) و (رقم)

بين إسمٍ في الوطن اليمني، العروبي القومي وآخر كـ (تُرْسٍ) صغيرٍ في الآلة الإعلامية البريطانية الضخمة والإعلام الغربي المتوحش، ومن مشروع كاتبٍ وأديبٍ مثقفٍ يشار إليه في بلاده بالبنان إلى مجرد دافع ضرائب يركض ليل نهار بين محطات الذهاب للعمل والإياب منه ، ويعمل مثل حصانٍ ، أياماً إضافيةً شحيحةً، فوق طاقته حتى لا يتأخر عن سداد فاتورةٍ تخدش بياض سجله كمواطن صالحٍ في بلده الافتراضي الثاني.

قبل ما يزيد على ثلاثة أعوامٍ من الموعد القانوني لتقاعدي قررت التقاعد، وغادرت دون وداعٍ تقليديٍ مألوف ..

حاول زميلٌ كبير، صديقٌ في العمل جبرَ خاطري وإثنائي عن ذلك بقوله "لماذا تتقاعد؟ أنت الصحفي اليمني الوحيد، المخضرم والمحترف هنا.. أنت سفيرً اليمن في هذه المؤسسة وسفيرها في اليمن".

مسؤولٌ يمنيٌ رفيع قال لي: "صحيح أن BBC كتمت أنفاسك 20 سنة لكنها حمَتك من الانزلاق في الصراع اليمني إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، ومن حقك اليوم أن تفخر بأنك قريبٌ من الكل والجميع يحترمك".

وقالت لي زميلةٌ يمنية أخرى من خارج المؤسسة "هل تعرف؟ اليمنيون ،معظم اليمنين، بي بي سي تعني لهم أنور العنسي ..أنور العنسي يعني لهم بي بي سي".

في الردهة الخارجية لمبنى BBC قابلت صحافيةً كبيرةً ومراسلةً دوليةً شهيرة طلبت، من قبيل التزكية والمواساة، أن تشتري هاتفي الجوال، سألتها باندهاش "لماذا؟" فقالت ضاحكةً"إنه يحتوي على أرقام وعناوين وايميلات الجن والإنس"!

تلك كانت مجاملةً بالطبع، لكني أجبتها ضاحكاً "لو كان هاتفي بهذه الأهمية لكنت عرضته في مزاد" مثل ما يفعل مشاهيركم في الغرب" فاحتضنتني السيدة بحنو الأم أو الأخت الكبرى كأنها تضم بين ذراعيها ابنها الذي لم تحظ بإنجابه .. زارت اليمن الذي أكرمها مراراً وبكّت في تقاريرها عنه كما لم يبك على مأساته الكثير من أبنائه.

لا بد أنها فطنت لقصدي، لكنها أخذت بيدي وسحبتني إلى مقعدين في مقهى قريبٍ في محاولةٍ لمواساةٍ مشتركة، سائلةً "هل كان أحدنا يستطيع أن يسافر إلى اليمن أو حتى أن يقول أو يكتب شيئاً عنه دون سماع رأيك قبل ذلك؟" .

ذلك (إلى حدٍ ما) كان صحيحاً ، لكن الصحيح أكثر هو لماذا لم يكن بوسعي أنا أن أذهب إلى اليمن وليس هي وزملاؤها الأجانب الآخرون اللذين تثق بهم سلطات الأمر الواقع وحلفاؤها الإقليميون أكثر من أي صحفيٍ يمني، محايدٍ ومستقل؟!

كان لا بأس من السذاجة حيناً، كي يركض الحصان الأسود في أسرته بعرَبَةِ العائلةِ الكبيرة في الوطن الأصلي والشتات لإكمال رحلة العمر على طرقات الحياة الوعرةِ ، لكن السذاجة إلى ما لا نهاية، وفي كل حين أمرٌ به، فيها من المعاناة ما لا يطاق، فقد مات أعزاء كثيرون من عائلتي وأنا بعيد عنهم وعاجزٌ عن أن أكون إلى جوارهم في لحظة احتضارهم وفي مقدمتهم والدتي وأخي وأختي وأقارب وأصدقاء آخرون.

لم أكن لأستطيع أن أجد نفسي ذات يوم في حفل وداعٍ لأي زميلةٍ أو زميلٍ ممن غادروا هذه المؤسسة/المدرسة فكيف عندما أكون أنا اليوم من يغادرها، فأنا رَجُلٌ هشٌ لا يحتمل الوداع، لكنني على أي حال تذكرت هاتين العبارتين من أغنية لفيروز :

دايماً في الآخِر .. في آخِر

في وقت فراق!

عند الطرف الأخير من باحة مبنى BBC تذكرتُ كم من معَذِّبي الأرض تظاهروا هنا، لعل BBC تنقل أصواتهم إلى مسمع الحكومات البريطانية المتعاقبة، لعلها تدرك أن السبيلَ الوحيد لوقف لجوئهم إلى دول الغرب هو أن يًُوقف الغربُ سياساته المؤذيةَ لهم في بلدانهم.

في المقابل، كانت BBC هي صوت بريطانيا الذي يصل إلى مختلف أصقاع الأرض، لكن هذا الصوت يكاد يصبح بلا صدى، بسبب الخطط و السياسات التي تتَّخِذ من تقشف بريطانيا، صاحبة أقوى الاقتصادات العالمية، عنواناً لها ومبرراً لاختفائها وغيابها وخذلانها لهم.

بعد أكثر من نصف ميلٍ واحد، وقبل أن أدلف أسفلاً إلى محطة ميترو الأنفاق في شارع اكسفورد ، عائداً إلى منزلي، قررت أن أمنح نفسي دقائق لاستعادة ما لا يستعادُ من الذكريات ، وأن استرجع من الحنين ما استطعت إلى ذات يومٍ عندما كان يخرج (الفتى) أنور مبتهجاً من هذه المحطة إلى شوارع لندن الفسيحة الكبرى، وكيف أنه سوف يخرج منها الآن رجُلا (ستينياً) مرهقاً ذاوياً، خائباً ، عائداً من وطنٍ إفتراضيٍ ثانٍ إلى اللا معلوم في وطنٍ عربيٍ كبير تائهٍ، لم يعد له من إسمه سوى الاسم، لكنه في النهاية رغم بؤسه وشقائه يظل وطن الهوى والهوية، والدَّم ومجرى الدَّم، المبتدأ في أول الحكاية وأصلها، والخبرُ في نهايتها ومعناه!