آخر تحديث :السبت-10 مايو 2025-09:46ص

الغراب

الإثنين - 23 أكتوبر 2023 - الساعة 03:03 م
د. مختار القشبري

بقلم: د. مختار القشبري
- ارشيف الكاتب


الغراب طائر أسود اللون معروف في سائر الثقافات، وفي كافة الأمم الإنسانية منذ نزول الإنسان الأول إلى هذه الأرض .. لا يجهله صغير ولا كبير ولا عربيٌ ولا أعجميً .. والأغرب من الغراب هو شهرته مع كره الناس جميعهم، له وضربهم به كل أمثال الشؤم والبلاء مع أننا نعيش في عالمنا اليومي مع طيور كثيرة لا نعرف أسماء كثير منها وربما خلًطنا بين أسماء كثيرة  فنحن في مناطق الساحل وجنوب  خليج عدن وبحر العرب لا تفتقد أبصارنا كل يوم من مناظر طيور البحر الجميلة والأجمل من الغراب غير أننا دائما ما نخلط بينها ولا نميز بين (مالك الحزين والنورس وطائر اللقلق وربما الوز والبط والبجع .. وغيرها كثير) .. لا ندري ما هو سر هذا الطائر الغريب (الغراب) في الشهرة بين بني البشر حتى حيكت حوله الأمثال والقصص والأساطير ففي آداب الهند والفرس والعرب؛ حين لاحظوا عدم انضباط الغراب على نوع من أنواع المشي يستمر عليه ويجيد أداءه مثل سائر الطيور فإنك لا تكاد ترى الغراب إلا طائرا أو يقفز من غير مشية يعتادها ويستمر فيها فزعموا في تلك الحضارات أنه كان له مشية في قديم الأزل غير أنه أراد استنساخ مشي الحمام حين أعجبه مشيها فلم يستطع مواصلة محاكاتها ولم يستطع أن يعود إلى مشيته فأصبح قافزًا أو طائرًا وحسب .. فضرِب به المثل لكل من أراد استسناخ شخصية غيره ومحاكاتها فتضيع لذلك حقيقته ولا يستطيع الاستمرار في تقليد غيره .. كان الغراب رفيقًا لمأساة بني آدم منذ نزولهم إلى هذه الأرض فهو المشير ( بوحي الله) لمداراة أول جريمة تحصل في هذه الأرض ( .. فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه؛ قال يا وليتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب)؛ ولعله سبب ارتباط ظاهرة الشؤم بالغراب في سائر آداب البشر؛ ففي أدب العرب جعلوه طائر الموت والبين والفراق والمصائب قبل الإسلام وبعده (مع نهي الإسلام عن التشاؤم)، لكن الغراب ارتبط شؤمه بأرواح بني آدم ارتباط الروح بالجسد حتى صار جزءًا لا يتجزأ مع كل مصيبة أو داهية من دواهي الدهر .. 

يا غراب البين أسمعت فقل  إنَما تنطق شيئًا قد فعل

إن للخير وللشر مدى  وكلا ذلك وجه وقبل 

وفي لوعات الفراق وحسرات البين لاحقهم الاستشعار بالغراب ووجود رمزيته في كل مصيبة .. 

ألا يا غراب البين لونك حالكٌ            وأنت بلوعات الفراق جدير 

فما زلتَ مكسورًا عديمًا لناصر كما ليس لي من ظالميً نصير 

ولا يغيب عن أدنى ناظر في آداب العرب قول قيس بن ذريح : 

لقد نادى الغراب ببين لبنى       فطار القلب من جزع الغراب 

وقال غدًا تباعدُ دار لبنى  وتنأى بعد ودٍّ واقتراب 

فقلتٌ تعست ويحك من غراب   وكان الدهر سعيك في تباب 

ولا يزالون يرونه مثلًا لرأي الفساد والسفاهة وقبح الطالع .. 

إذا نطق الغراب فقال خيرًا  فأين الخير من وجه الغراب 

ومن يكن الغراب له دليلًا  يمر به على جيف الكلاب

ومما جاء في الشرائع السماوية أنها حرمته وحثت على القضاء عليه وجعلته واحدًا من المخلوقات الفاسقة التي لازمها وصف الفسوق من قديم  الأزل .. فليس له من بر وإحسان بني آدم شيء في منظور الشرائع السماوية ..  غير أن كثيرًا من البشر قد كان له خصائص منه فهو كما يقال في الأمثال الشعبية ( لا يؤكل لحمه ولا يشرب مرقه) .. وهو لا يستأنس بنعيقه .. بل لا يزال نعاقه يبعث الوحشة ويزيد الكربة ويستحيل في يوم ما أن يكون مبعث البهجة.   

* أكاديمي في كلية اللغات والترجمة – جامعة عدن