انتهيت قبل أيام من قراءة الجزء الأول من *كتاب لمحات من تاريخ العراق الحديث* للكاتب العراقي د. علي الوردي استاذ علم الاجتماع بجامعة بغداد رحمه الله..
الحقيقة أن هناك تشابه كبير في الحياة الاجتماعية في الوطن العربي وهو إذ يكتب عن العراق فكأنما يكتب عن اليمن أو أي بلد عربي مع مراعاة خصوصية المجتمع العراقي.
لا اريد أن الخص ما كتبه المؤلف ولكن أحببت التعريج على بعض ما جاء بالكتاب إذ انه تحدث عن التاريخ الحديث للعراق ابتداء من القرن العاشر الميلادي وما فيه من احداث كبيره اثرت في المنطقة ابتداءً بالدولة العثمانية التي كانت تسيطر على العراق والدولة الصفوية التي حولت إيران من مجتمع سني الى مجتمع شيعي تحت الاكراه وما تلي ذلك من صراعات وتداخلات اجتماعية بحكم وجود المراقد الشيعية في العراق.
ويذكر الكاتب أن موقع العراق بين ثلاث جهات متصارعة أثر فيه تأثيرا بالغا إذ تنازعته إيران الصفوية التي عمقت الخرافة والبكائيات في وجدان الفرد العراقي، وتركيا العثمانية التي اهملته وجعلت من تريد ان تعاقبه من الولاة حاكما على العراق، وتأثيرات الصحراء المفتوحة امامه وتنقل القبائل وتأثيرها العشائري على النفس المدني.
وهنا كان العراق بين تسلط حكام فاشلين من غير أهله أثقلوا كاهل الناس بالجبايات والمكوس وخرافة قبورية تتماهى معها قصص الخوارق والمعجزات في الوجدان المجتمعي.. تظهر آثارها وبقوة إلى اليوم، ونزاعات عشائرية تحمل قيم البداوة والافتخار بالسلب والنهب وقطع الطريق والغزوات بهدف المغانم ... ومن الملامح الأساسية في هذه المرحلة عدم استقرار المجتمع العراقي بسبب الصراعات والثورات إذ كان الوضع لا يستقر لحاكم الا وثارت ثائرة أخرى حتى انهم ليصبحوا على والي ويمسون على آخر وأيضا انتشار الامراض والاوبئة الفتاكة والتي حصدت الاف من سكان بغداد والبصرة وغيرها من المدن الرئيسية واثرت على التركيبة السكانية المدنية واستبدالهم بسكان جدد قدموا من الأرياف بعاداتهم العشائرية
يذكر الكاتب تحولات واحداث مهمه يجدها القارئ في ثنايا الكتاب ويختم الكتاب كتابه بملحقات يناقش فيها ثلاث فرضيات اعتبرها نتيجة ما حدث خلال القرون المنصرمة وهي: ....
1) التناشز الاجتماعي: واهم سبب للتناشز الاجتماعي هو أن الحضارة الحديثة جاءت الينا بأفكار ومبادئ ومفاهيم تناقض العادات الاجتماعية التي نشأنا عليها في بيئاتنا المحلية. فهي قد جاءت لنا مثلا بمبادئ المساواة والعدالة والديمقراطية، وهذه في الحقيقة لا تنسجم مع قيم العصبية والقرابة والجيرة والنخوة والدخالة وغيرها من العادات التي كانت سائدة في الجيل الماضي ولا يزال أثرها باقيا في أعماق النفوس.
أن الحضارة هي عادات ونظم اجتماعية قبل أن تكون أفكارا ومحفوظات فالفرد في البلاد الراقية حضاريا ينشأ في حياته البيتية على عادات تلائم الحضارة التي يعيش فيها ولا يوجد فرق عنده بين طفولته وكبر سنه أما الفرد عندنا فهو قد ينشأ في بيئة محلية مفعمة بقيم العصبية حتى إذا كبر تعلم أفكارا مناقضة لتلك القيم فيجاري هذه تارة وتاك تارة أخرى أي انه يعيش في عالمين متضادين عالم المثل التي ينادي بها في كتاباته وخطاباته وعالم الواقع الذي يعيش فيه بمفاخراته ومنابزاته.
2) ازدواج الشخصية: وهو أن يسلك الانسان سلوكا متناقضا دون أن يشعر بهذا التناقض في سلوكه أو يعترف به وهو ينشأ عن وقوع الانسان تحت تأثير نظامين متناقضين من القيم أو المفاهيم فهو يتأثر بهذا تارة وبذاك تارة أخرى والحديث هنا عن ازدواج الشخصية بالمعنى الاجتماعي لا المعنى النفسي .
3 ) صراع البداوة والحضارة: إن الصحراء تنتج البداوة بينما البقاع الخصيبة تنتج الحضارة ولهذا كان الوطن العربي ميدانا للصراع بين البداوة والحضارة منذ بداية التاريخ، ويندر أن تجد منطقة في العالم تشبه الوطن العربي في ذلك حيث انه من المحيط الأطلسي غربا الى الخليج العربي شرقا يشتمل على أعظم منطقة صحراوية في العالم وهو يشتمل أيضا على بقاع خصيبة وافرة المياه
ويخلص الكاتب الى أن التطور الحديث الذي نعيشه هو تطور فكري مع بقاء التأثير المجتمعي فينا لان ما يميز التطور هو الفردية.. ما لك من حقوق وما عليك من واجبات. ويحدث الازدواج والتناشز بسبب القيم البدوية التي تجعل من الفرد يصطدم بحائط قيم القبيلة والجيرة فيغلب مصلحة عشيرته على ما تحتمه عليه وظيفته من التعامل دون تحيز وفق مبدأ القوانين المنظمة وهنا يحدث الخلل بين ما تعلمه في المدارس وما يتنازعه من عادات مجتمعية عميقة.