بمناسبة الذكرى ال٥٨ لعيد الاستقلال الوطني – ٣٠ نوفمبر.
في كلّ عام يعود الثلاثون من نوفمبر ليذكّر اليمنيين، شمالًا وجنوبًا، بأن لهذا الوطن جذورًا من نارٍ ووعيٍ ودمٍ حيّ، غرسه رجالٌ خرجوا من المدن والقرى والجبال والسواحل ليصنعوا واحدة من أصفى لحظات التاريخ العربي الحديث، الاستقلال الناجز وطرد آخر جندي بريطاني من جنوب الوطن عام ١٩٦٦م.
هذه الذكرى لا تعود بوصفها مناسبة احتفالية فحسب، بل كمحاولة لإنقاذ ذاكرة جيلٍ يعيش اليوم فراغًا واسعًا بينه وبين آبائه المؤسسين؛ جيلٌ تربّى في بيئة مزّقتها الصراعات، وشوّهتها المشاريع الصغيرة، وغُيّبت عنها سردية النضال الوطني الحقيقي الذي بدأته الحركة الوطنية اليمنية، في الشمال بثورة ٢٦ سبتمبر ضد حكم السلالة الكهنوتية، وتواصل في الجنوب بثورة ١٤ أكتوبر ضد الاستعمار البريطاني، ثم تُوّج في ٣٠ نوفمبر يوم إعلان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية رافعةً علمها ذي الألوان الثلاثة: الأحمر والأبيض والأسود—علم الشعب كله، ووعده، وتاريخ كفاحه.
جيلٌ يضيع بين روايتين، ورواية الوطن تغيب
تعرّض الجيل المعاصر لجرعة عالية من التشويه التاريخي؛
– أُضعفت سردية واحديّة الثورة اليمنية.
– وحُرِّفت حقيقة وحدة الجغرافيا والمصير.
– وصعدت أصواتٌ تُجرّ البلاد نحو مشاريع ضيّقة تعيد رسم خرائط الاستعمار بمسميات جديدة.
السبب ليس في الجيل، بل في الفراغ الذي تركته السلطة بعد وحدة ٢٢ مايو ١٩٩٠م.
تلك السلطة التي أدارت البلاد بعقلية الاستئثار، لا بعقلية الدولة، فصادرت مؤسسات، وسمحت بالفساد، وأضعفت الوعي العام، ودفعت كثيرين إلى البحث عن خلاص فردي أو مناطقي أو جهوي، بدل الالتفاف حول مشروع وطني جامع.
لم تكن ثورة ١٩٦٢م مجرد انقلاب سياسي؛ كانت قطعًا جذريًا مع مشروع كهنوتي استعبد اليمنيين قرونًا.
كانت ثورة إنسانية قبل أن تكون سياسية:
– ثورة لفتح أبواب التعليم.
– ونزع القداسة عن السلالة.
– وفتح اليمن على العالم.
هذه الثورة لم تكن معركة شمالية فقط؛ كانت معركة كل اليمن، بما فيها الجنوب الذي قدّم للثورة رجالًا وفكرًا ودعمًا سياسيًا واضحًا.
وحين حمل فدائيو الجبهة القومية البنادق في جبال أبين ولحج والضالع وشبوة وسواحل عدن والمكلا والغيضة، لم يكونوا يقاتلون لأجل سلطنات أو كيانات هشّة؛ كانوا يقاتلون لإجهاض مشروع “الجنوب العربي” الذي حاولت بريطانيا به أن تُبقي الجنوب مجزّأً تحت شعار “اتحاد الإمارات والسلطنات”.
وكان القرار الحاسم للجبهة القومية:
إنهاء الكيانات الصغيرة، وبناء جمهورية وطنية واحدة، علمها علم اليمن، وهويتها يمنية خالصة.
٣٠ نوفمبر… اكتمال لحظة التحرر، وجاء إعلان الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية تتويجًا لواحدٍ من أنبل النضالات العربية.
وفي تلك اللحظة التاريخية، لم يكن مشروع اليمن مجرد حدود سياسية، بل حلمًا وعيًا ومصيرًا تشكّل عبر عقود من الدم والتضحيات، في ربوع اليمن.
وما إن استقر الاستقلال حتى بدأت الحكومات الوطنية في خطّ مشروع أكبر:
لمّ الشمل اليمني في دولة واحدة وهو الحلم الذي اكتمل في ٢٢ مايو ١٩٩٠م.
ولكن لماذا يتراجع الوعي اليوم؟
لأن ممارسات السلطة بعد الوحدة ضربت الفكرة الوطنية في عُمقها:
– فساد متجذّر
– تهميش سياسي
– غياب مشروع وطني جامع
– استئثار بالسلطة والثروة
– تفكيك للمؤسسات
– وإدارة البلاد بذهنية المنتصر والغالب لا بشراكة وطنية.
وبسبب ذلك، عاد دعاة التمزيق يجدون آذانًا صاغية لدى جيل فُصل عمدًا عن جذور وعيه.
إن ربط وعي الجيل الحاضر بوعي جيل التأسيس الذي قاد ثورتي سبتمبر وأكتوبر ليس ترفًا فكريًا، بل شرط وجودي لبقاء اليمن.
فحين يستحضر الشباب اليوم:
– شجاعة الرعيل الأول.
– ونظافة يدهم.
– ووضوح مشروعهم الوطني.
– واستعدادهم للتضحية، للاحفاظ على قدسية مبادئهم الوطنية.
فإن كل المشاريع التمزيقية ستسقط تلقائيًا.
الوعي الثوري الأصيل وحده قادر على هزيمة مشروع الانقلاب الحوثي الذي يسعى لعودة السلالة الكهنوتية بلباس جديد، وقادر أيضًا على دحض المشاريع الجهوية والمناطقية والعنصرية التي تتسلل إلى المشهد تحت يافطات الخصوصية والتمثيل و الحقوق.
إن عودة الشباب إلى جذور الثورة، إلى أحلام الآباء المؤسسين، إلى مشروع الدولة الواحدة، هو المسار الحتمي لإنهاء كل مشاريع التفكيك يواء تلك التي تحمل راية الانقلاب السلالي، أو تلك التي ترفع شعارات المناطقية الضيقة.
إن روح نوفمبر تريد لهذه المناسبة أن تكون لحظة لاستعادة:
– الضمير الثوري.
– الوعي الوطني الواسع.
– الإيمان الراسخ بوحدة المصير.
– والقدرة على هزيمة المشاريع الصغيرة التي تعيد اليمن إلى ما قبل الثورة.
تريد جيلًا يفهم أن مستقبل اليمن لا يُبنى بالتمزيق، بل بالوعي؛
لا يُبنى بالشعارات، بل بالمسؤولية؛
ولا يُبنى بالتاريخ المزور، بل بالتاريخ الحقيقي الذي صنعه اليمنيون معًا.
٣٠ نوفمبر هو جسرٍ بين روح الآباء المؤسسين، وبين جيلٍ يحتاج استعادة بوصلته الوطنية.
إنها ليست ذكرى عابرة، بل دعوة لإشعال الجذوة التي أنارت سبتمبر وأكتوبر، وباستطاعتها أن تُنير الطريق من جديد.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
✍️ عبدالعزيز الحمزة
الأحد ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٥م