قبل الوحدة، كان الجنوب في كنف نظامٍ أشبه بـ"الأب المُدبِّر". لم تكن الدولة سلطةً فحسب، بل كانت الضامن الوحيد لكل مسارات الحياة. في تلك الحقبة الاشتراكية الصرفة، تشبَّعت العقلية الجنوبية بفكرة أن الدولة هي مصدر كل شيء: تمنح الراتب، وتوفر السكن، وتخطط للمستقبل، وتحدد المسار المهني.
لم نكن نعرف دهاليز التجارة المعقدة، ولم نتعامل مع المال كوسيلةٍ للمخاطرة أو الاستثمار الفردي، بل كـ"حق" تنظمه وتوزعه يد الدولة العادلة. كان الإيمان السائد أن الاجتهاد في الوظيفة العامة كافٍ لنيل الكرامة والاستقرار، فكانت معادلة الحياة بسيطة ومريحة: انتماءٌ خالص مقابل رعايةٍ كاملة.
على النقيض تمامًا، كان المشهد شمالًا مختلفًا جذريًا. هناك، نشأ المجتمع في بيئة اقتصاد السوق، وكانت الدولة بشكلها القائم تمارس النهب والفساد، فيما كان الاعتماد الأكبر يقع على الكتف الفردي والمبادرة الشخصية. كانت الملكية الخاصة هي المفتاح الأساسي للانتماء، وكان الناس ينشطون في أعمالهم الحرة والتجارية أكثر من اهتمامهم بالمصالح العامة للناس.
وجاءت الوحدة الفورية، ولم يُدرس هذا التباين العميق بين نظامين متنافرين — جنوبٌ يخرج من عالمٍ تملك فيه الدولة كل شيء، وشمالٌ يعيش تحت مظلةٍ يملك فيها الفرد كل شيء تقريبًا. كانت الفجوة بين الاقتصاد الرعوي والاقتصاد الحر هائلة، وبدلًا من إدارتها بالحكمة والتدرج، تحولت سريعًا إلى صدامٍ اقتصادي وثقافي كشف هشاشة التوافق الوحدوي منذ اللحظة الأولى للاندماج.
ثم جاءت اللحظة القاتلة بعد حرب 1994، حين فَقَدَ الجنوبيون بقايا نظامهم. كان ذلك انهيارًا كاملًا لـ"أسلوب الحياة" ونظامها الاقتصادي المعتاد. بدأ المنتصرون هوايتهم في التفكيك المنهجي لكل ما هو عام وجميل: وُزعت الأراضي، نُهبت الممتلكات العامة، واستُبيحت حتى منازل الرموز السياسية.
منذ تلك اللحظة، بدأ الفقر الحقيقي يتسلل إلى كل بيتٍ جنوبي، لكنه لم يكن فقرًا عاديًا، بل فقرًا مركبًا نتج عن صدمة اقتصادية وثقافية. الناس الذين نشأوا على فكرة "الأب الراعي" وجدوا أنفسهم فجأة في سوقٍ مفتوحة لا يعرفون قوانينها، تحت ظل دولةٍ غارقة في الفساد والطمع. وفي الوقت ذاته، لم يمتلكوا رأس المال، ولا الخبرة التجارية، ولا الثقافة الاستثمارية للمنافسة في عالمٍ جديد.
لقد دفع الجنوبيون ثمن التحول القسري والمفاجئ من اقتصاد الرعاية الاجتماعية إلى اقتصاد الإقصاء الفردي، دون أن تتوفر لهم أدوات التكيُّف أو الدعم اللازم لبناء بدائل ذاتية. ومع تراكم الأزمات والحروب والفساد، أصبح الفقر اليوم السمة الأبرز التي تُثقِل كاهل المدن الجنوبية، خصوصًا في عدن ولحج وأبين.
فالأسعار تقفز بلا إنذار، والرواتب منقطعة، والخدمات منهارة، والفقر ينهش كل أسرة؛ تراه في وجوه الناس، وفي خطواتهم المتعبة نحو الأسواق. لم يعد الفقر مجرد ضيق ذات يد، بل تجربة إنسانية قاسية تسرق من الناس أحلامهم بهدوء، وتعلّمهم الصبر أكثر مما تعلّمهم الأمل.
وفي ظل هذا الواقع القاسي والمرير، لا مفر من العودة إلى الوعي والتدبير. على كل أسرة أن تواجه الأزمة بالعقل، من خلال الاقتصاد المنزلي، وترشيد الإنفاق، والاعتماد على المبادرات الصغيرة، إلى أن تتحسن الظروف، وتولد من ركام أزمات اليمن حلولٌ وطنية حقيقية تهتم بالمواطنين، وتشخّص الداء قبل أن تصف الدواء.