يقف المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم على مفترق طرق مصيري، إذ يواجه في آنٍ واحد تحديات الداخل وضغوط الخارج، وبينهما سؤال المستقبل: هل يظل أسيراً لماضٍ مثقل بالأخطاء والهويات الجامدة، أم ينفتح على منطق جديد تفرضه التحولات الإقليمية والدولية؟
المجلس منذ نشأته حمل على عاتقه قضية الجنوب، لكنه في الممارسة كثيراً ما وُجهت له انتقادات حادة بأنه تحول من حاملٍ للقضية إلى سلطة متغلبة تمارس الإقصاء وتعيد إنتاج أخطاء من سبقها. الخطر الذي يتهدد المجلس ليس في أصل القضية، فالقضية الجنوبية مشروعة وعادلة في جذورها، وإنما في الممارسة التي تجعل المجلس أحياناً يبدو "انتقائياً" في التعيينات، "اتكالياً" في إدارة الأزمات، و"انفعالياً" أمام النقد. وهذه الصفات الثلاثة كفيلة بجر أي كيان سياسي إلى فقدان رصيده الشعبي وانكشاف ضعفه أمام الآخرين.
الجنوب اليوم بحاجة إلى قيادة تفض الاشتباك لا أن تفرض الارتباك، بحاجة إلى شعور الجسد الواحد لا إلى صوت واحد يقصي الجميع، بحاجة إلى عقد جديد من الثقة والضمان لا إلى إعادة عقارب الساعة إلى ماضٍ مأزوم. فالتحرر لا يتحقق بمجرد فك الارتباط، بل قبل ذلك بفك الاعتباط، أي تجاوز منطق الاستبداد والهيمنة الذي عانى منه الجنوب في محطات سابقة.
غير أن التحدي الأكبر للمجلس لا يتوقف عند حدّ إصلاح سلوكه الداخلي، بل يمتد إلى فهم التحولات العميقة في الإقليم والعالم. فالمرحلة الراهنة لم تعد تحتمل الخطاب الصلب المغلق الذي يتكئ على مقدمات الأمس، بل تفرض منطق المرونة السياسية. الشرق الأوسط يُعاد ترتيبه، والمجتمع الدولي يعيد صياغة أولوياته، واليمن ككل بات جزءاً من حسابات أوسع تتعلق بالممرات البحرية والتحالفات الأمنية والاقتصادية. في هذاك السياق، لا يمكن لقضية الجنوب أن تظل أسيرة خطاب محلي ضيق، بل لا بد أن تُعاد صياغتها ضمن معادلة تجعل الجنوب جزءاً من الحل الإقليمي والدولي، لا مجرد عقدة إضافية فيه.
إن الهوية الصدامية التي تختزل الجنوب في شعار واحد أو صوت واحد لم تعد تجدي، بل تهدد بالتقوقع والانقسام. المطلوب هو هوية توافقية أكثر رحابة، تستوعب تنوع الجنوب وتعدد الآراء داخله، وتبني شراكات واسعة مع الداخل والخارج. هذه المرونة لا تعني التنازل عن جوهر القضية، بل تعني حمايتها من أن تضيع في عزلة الشعارات أو تُستنزف في صدامات جانبية.
ورغم كل الانتقادات، يظل المجلس الانتقالي – حتى الآن – أكثر حضوراً وتأثيراً من مشاريع أخرى أشد خطراً، وفي مقدمتها المشروع الحوثي الذي أغرق اليمن في الاستبداد السلالي والمذهبي. لكن هذا التفوق النسبي لا يمنح المجلس تفويضاً مطلقاً، بل يضاعف مسؤوليته في أن يرتقي إلى مستوى طموحات الجنوبيين، وأن يتصرف ككيان سياسي ناضج قادر على التكيف مع المتغيرات.
الخلاصة أن المجلس الانتقالي أمام امتحان مزدوج: داخلي يتمثل في إصلاح بنيته وسلوكه، وخارجي يتمثل في التكيف مع منطق المرونة الذي تفرضه المرحلة. فإذا نجح في الجمع بين الحماية والمرونة، بين صيانة الهوية وتجديد المنطق، فإنه سيظل رقماً صعباً في معادلة اليمن والمنطقة. أما إذا بقي أسير خطاب الأمس وسلوكيات الإقصاء، فسوف يتجاوزه الزمن، ويجد نفسه على هامش الأحداث بدل أن يكون في قلبها.